في الصلاة قبل الآلام، طلب الرب يسوع إلى الله الآب أن يحفظ جماعته. وقال: "لا أسألك أن تخرجهم من العالم، بل أن تحفظهم من الشرير" (يو ۱۷ : ١٥). فإنه كان عالما بمعرفته الإلهية أن العالم سوف يحارب جماعته. وهذا ما أثبته التاريخ وما يزال.
لماذا يحارب العالم تلاميذ المسيح؟ يقول الرب في صلاته هذه "لأنهم ليسوا من العالم" ولأنه، أي المسيح قد بلغهم كلمتك (الآب) فأبغضهم العالم (يو 17 : 14) . إذا كره العالم للمسيحيين من كرهه لربهم. ومن هنا يعرف المسيحيون أنهم يخونون ربهم عندما يحبهم العالم، لأنهم آنئذ يكونون قد تماهوا معه لا مع ربهم. رفضهم الشرير وأعماله إنما هو سبب كرههم من العالم.
العالم في لغة الإنجيل هو ما يضاد الإنجيل، ما يعاكس المسيح وتعليمه، ما يسير مناقضًا الطريق المسيحي وفضائله. من هنا فهم المسيحيون منذ البدء أنهم إن كانوا أتباعا للمسيح فعليهم أن يميزوا بين مسيحهم والعالم الذي يعيشون فيه. أمانتهم لربهم تقتضي منهم أن يغيروا العالم ليتوافق مع إنجيل المسيح، لا العكس. هذا يعني ما يعنيه أنهم مقيمون في قلب المسيح حتى يغتذوا منه ويبقوا على الأمانة. ولذلك طلب لهم أيضا في صلاته إياها: "قدسهم بالحق إن كلمتك حق" . لا يستوي الإيمان المسيحي وغياب الحق. فعلى المسيحي أن يبدأ بتغيير نفسه لتتوافق مع الحق الذي هو كلمة الله، ليستطيع أن يسهم في تغيير العالم ليصير في يد الله.
العلاقة بين المسيحي والعالم تدعونا إلى أن نتأمل بعمق وهدوء كلمات الرسالة إلى ذيوغنيطوس التي تعود إلى نهاية القرن الثاني الميلادي، والتي يدافع كاتبها عن المسيحيين أمام العالم الوثني المضطهد إياهم، بكلمات غاية في الروعة والعمق. مما يقوله نقتطف هذه الكلمات:
"لا يختلف المسيحيون عن سواهم من أبناء البشر في الوطن أو اللغة، يتممون كل واجباتهم المدنية، ويدفعون سائر الضرائب، يشتركون في كل شيء كمواطنين، ولكنهم يحتملون كل ما يحتمله الغرباء، يحبون جميع الناس، ولكنهم يُضطهدون، يقتلون ولكنهم بالموت يكسبون الحياة. إنهم فقراء، ولكنهم يغنون كثيرين. يعوزهم كل شيء، ولكنهم ينعمون بكل شيء، يعملون الخير فيجازون كأشرار، ولكنهم يفرحون لأنهم يحبون . ...
إنهم للعالم كما الروح للجسد، وكما أن الروح تسكن كل أعضاء الجسد، فإن المسيحيين يقطنون كل مدن العالم. وكما أن الروح تسكن في الجسد وتظل ليست منه، فهكذا المسيحيون يسكنون العالم، ولكنهم يظلون غرباء عنه. المسيحيون لا يسيئون إلى العالم، لكن العالم يكرههم، لأنهم يقاومون ملذاته. والنفس تحب الجسد الذي يكرهها، كما أن المسيحيين يحبون الذين يكرهونهم، يعيشون غرباء بين الأشياء الفانية، منتظرين الخلود في السماء. ومع أنهم يُضطهدون، فإنهم يتكاثرون يوما بعد يوم، المسؤولية، التي أوكلها إليهم الله، هي على قدر كبير من الأهمية، لا تسمح لهم بالانعزال عنها"..
