بسؤال بعض الآباء الرهبان عن كيفية دعوتهم للرهبنة , وبالاستماع إلى قصص وحوادث حدثت للآخرين نسرد الحقائق الآتية :
1 – قال لى أحد الآباء : قبل تخرجى من الدراسة كثيرا ما كانت تنتابنى أحلام اليقظة عن الزواج والأولاد والبيت والتالى ...ألخ . ولما تخرجت لم أوفق بسرعة إلى عمل , فكانت تجربة قاسية بالنسبة لى التصقت فيها بالرب طالبا معونته فى تدبير الوظيفة المناسبة لى , واظبت على الكنيسة وعلى الاعتراف والتناول , وما هو إلا فترة بسيطة حتى استجاب الرب لمسكنتى وتعينت فى وظيفة لم أكن أحلم بها ومن ملابسات وتفاصيل موضوع التعين عرفت أن يد الرب هى التى تعمل معى بقوة , فشكرت الرب وذهبت لاستلام عملى فى إحدى البلاد . وهناك وجدت زميلا فى العمل فى نفس خادم ممتاز و رائد اجتماع الشبان فى المدينة . عرفنى طريق الخدمة وأساليبها , فتتلمذت له وانخرطت فى سلك الخدمة , وكان عنده بعض الميول الرهبانية .
عشت فى الخدمة وقرأت الكثير من الكتب الروحية . فأخذت تتبلور عندى فكرة بسيطة عن البتولية ومدى نفعها للشباب فى الخدمة واستمرار علاقة الشركة القوية مع الرب بدون مانع ولا عائق , وأخذت تتبخر من ذهنى فكرة الزواج . كان أهلى يلاحقوننى بالخطابات فى موضوع الزواج وكنت أؤجل . كنت كل أجازة انزل البلد يفاتحوننى فى الموضوع فأتهرب بحجة أو بآخرى أو بتغير مجرى الحديث , فكنت أشعر بالخجل والحرج أثناء الحديث فى هذا الموضوع , أى موضوع الزواج , وأتنفس الصعداء حينما أفلت وأتخلص منه حتى ذلك الوقت لم أكن أعرف للرهبنة طريقا , وحتى فكرتى عن البتولية لم يكن لها تخطيط أو هدف خاص , إنما غامضة ومبهمة . وسلمت الأمر ليدى ذاك الذى معه أمرنا .
جاء إلى صديقى سالف الذكر أحد أصدقائه وكان ينوى الذهاب إلى الدير إذ كانت عنده فكرة قديمة للرهبنة , وطرحا الموضوع أمامى على بساط البحث , صديقى أخذ الجانب السلبى وكأنه غير مقتنع بالرهبنة ودعوتها مع أن الأمر لم يكن هكذا طبعا وإنما ليختبر صدق عزيمة الطرف الآخر وثبات مبادئه – بينما الطرف الآخر أخذ يدافع عن الرهبنة وفلسفتها وروحانيتها مصرا على اقتناعه الكامل بالانخراط فى سلكها , وتكررت الجلسات والمناقشات . إلى هذا الوقت كنت أنا أجلس معهما مستعما فقط , وسرعان ما رأيت نفسى وقد انحزت للطرف المؤيد للرهبنة وتشبعت بالفكرة جدا , وطلبت إلى الرب لو يهئ لى السبيل إلى هذه الدعوة المقدسة .
وبعد فترة وجيزة ذهب عاشق الرهبنة إلى الدير , وطلبت أن أصحابه ولكننى اعتذرت مؤجلا الموضوع ألى أن تنضج الفكرة وأعمل الترتيب اللازم . ثم نقل صديقى وزميلى الآخر إلى مدينة أخرى , وبقيت أنا وحدى وقد ملك على فكر الرهبنة كل مشاعرى . أصبحت ألتهم التهاما كل كتاب يتحدث عن الرهبنة . فى هذه الفترة قرأت بستان الرهبان ونقلت بعض أقواله فى كشكول خاص , قرأت كتاب دراسات من تاريخ الرهبانية والديرية المصرية للدكتور حكيم أمين , وقرأت كتاب أديرة وادى النطرون للدكتور منير شكرى وقرأت كتاب انطلاق الروح لقداسة البابا شنودة الثالث وقرأت كتاب حياة أنبا أنطونيوس بقلم أثناسيوس الرسولى .
ظل صديقى الراهب الذى ذهب إلى الدير يراسلنى من هناك يشجعنى ويذكرنى بالموضوع كلما فترت همتى نتيجة هموم ومشاغل ومشاكل العالم ونتيجة حرب العدو للفكرة المقدسة . زرت الدير مرة لمدة أسبوع وهناك دبر لى الرب جلسة طويلة مع أحد الآباء الروحانيين فزادت الفكرة رسوخاً فى قلبى . غادرت الدير متمنياً اليوم الذى أعود فيه إليه بلارجعة إلى العالم .
ظللت سنتين تقريباً وأنا فى مد وجزر تتناوبنى الأفكار , بين الرهبنة والخدمة بين محبة الله ومحبة الوالدين , بين التكريس والوظيفة , وكان الموضوع هو شغلى الشاغل وموضوع الساعة فى كل صلاة وطلبة .
أخيرا فى ملء الزمان وفى الوقت المحدد من قبل الرب ,أعطونى إجازة فى العمل , لم أطلبها ولم أتوقعها إذ كنت راجعا من أجازة من شهر واحد تقريبا . فضلت أن أقضى هذه الإجازة الإجبارية فى الدير إذ كنت عند الأهل من مدة قريبة جدا .
ذهبت إلى الدير لمجرد قضاء إجازة إجبارية كما قلت , وفى الدير حصل العجب .
مجرد جلسة مع أحد الآباء الأفاضل , شجعنى وبدد ماتبقى عندى من مخاوف , وهون ما كان عندى من مشاكل كنت أحسبها معقدة وبلاحل . لاأنكر أن روح الله كان يعمل فى هذه الجلسة بطريقة عجيبة , وفى نهاية الجلسة قررت الاستقالة من عملى والسفر فورا لإحضار بعض كتبى وحاجاتى والعودة إلى الدير على عجل .
عملت كل شئ فى هدوء ثم رجعت إلى الدير هذه المرة ليس زائرا وهإنما طالب
هذا شكل من أشكال الدعوة الرهبانية على ماأعتقد .
2- سألت أبا اخر فقال لى : أحسست بحبى لحياة الرهبنة بعد أن قرأت كتاب "حياة الصلاة الأرثوكسية " عندما أصدره دير السريان العامر لأول مرة , كنت وقتها طالبا بالمرحلة الثانوية . كنت أجد تعزية كبيرة فى حياة الصلاة والخلوة , وكنت أفرح بالرب فرحا لاينطق به ومجيد . كنت أتعزى فى الجلوس معه بطريقة لايعبر عنها ظلت الفكرة معى حتى أنهيت المرحلة الثانوية , وبعد أن امتحنت الثانوية العامة وكانت النتيجة على وشك الظهور , حلمت حلماً وكأنى أسأل سكرتير المدرسة عن النتيجة فقال لى " مالك ومال النتيجة مش أنت هتترهبن " تعزيت وتشجعت من هذا الحلم .
ظهرت النتيجة ونجحت وشكرت الله , ودخلت الكلية وأقول الحقيقة أن فكرة الرهبنة وماتتضمنه من حياة البتولية والعفة والطهارة حفظتنى جداً فى هذه المرحلة الحرجة من حياتى الشبابية , حيث الاختلاط والعثرات فى الجامعة وغير الجامعة , مما طوح بالكثيرين من الشباب إلى حياة الانحراف والفشل .
وأخيرا تخرجت من الجامعة ومازالت الفكرة متملكة على . عملت فى عدة وظائف, وكنت أتردد على الأديرة بين الحين والآخر .
أخيرا قررت الذهاب إلى الدير للرهبنة , ولكن بعد بضعة أيام فى الدير هزمت من بعض الأفكار فنزلت إلى العالم , وفى العالم قررت نبذ فكرة الرهبنة وكنت أحاول طردها من ذهنى , حتى حدث مرة أن اضطررت أن أركب الترام وهو سائر بسرعة هادئة فوقعت تحته وتعالت صيحات الناس حادث حادث . الأخ مات .
فوقف الترام وأخرجونى من تحته ولم تصبنى سوى كدمات بسيطة لا تستحق الذكر
, وقال لى بعض الناس كنا نراك بينما تقترب من العجلات كأن شيئا يبعدك عنها . لقد كتب الله لك عمرا جديدا .
بعد هذه الحادثة التى هزت كل كيانى عدت إلى نذرى القديم مع الرب وهو فكرة الرهبنة . قلت إن كانت الرهبنة موت معنوى عن العالم وشهواته , هناك فى الدير تحت أقدام المسيح , فأنا كنت على وشك أن أموت فعلا , ولكن تحت عجلات الترام . واعتبرت هذه الحادثة إنذارا من الرب لى بأن أوفى نذرى لأن الحكيم يقول " أن لاتنذر خير من أن تنذر ولاتفى " (جا 5:5).
وماهى إلا فترة بسيطة حتى رحلت إلى الدير للرهبنة , عازما من القلب أن أحيا هذا العمر الجديد الذى كتبه لى الرب فى طاعته ومرضاته متمتعا بحبه وشركته المقدسة " فما أحياه الآن فى الجسد فإنما أحياه فى الإيمان , إيمان ابن الله الذى أحبنى وأسلم نفسه لأجلى " (غل 20:2) .
3- قص لى راهب اخر قصة مجيئه إلى الدير , قال : كنت جنديا فى الجيش واشتركت كتيبتى الحربية فى إحدى المعارك مع العدو , انهال علينا رصاص الأعداء وطلقات مدافعه كوابل المطر , انبطحنا كلنا أرضا , لم يفدنا ذلك شيئا إذ كنا فى مكان خال من أية سواتر . أخذ الرصاص يحصد من حولى الضباط والجنود دون تمييز . كان الرصاص يمر فوق رأسى بما لايزيد عن سنتيمترات قليلة وأنا منبطح على الأرض . فى هذه اللحظات صليت إلى الله وتشفعت بالسيدة العذراء مريم ونذرت نذرا إن نجوت من هذه الضائقة سأهب حياتى كلها للرب أخدمه فيها , بالطريقة التى يراها هو حسب مسرة مشيئته .
وساعتها وجدت وكأن يدا تظلل رأسى وتحميها من الرصاص وظلت هكذا حتى انتهى الهجوم وإطلاق الرصاص , فتنفست الصعداء وقمت شاكرا الرب الذى نجانى من موت محقق وعملت واجبى نحو زملائى الذين حصدهم الرصاص الغادر وهم بين جرحى وقتلى .
لما أنهيت خدمتى العسكرية أخذت أصلى للرب أن يهدينى إلى أحسن طريق لوفاء نذرى , وإذ وجدت أنه ليس لدى إمكانيات الخدمة والتكريس فى العالم قررت أن أترهب وأكرس حياتى لعبادة الرب وخدمته بالعبادة والتسبيح .
وهكذا تمم الرب شهوتى وجئت إلى الدير وماهى إلا أشهر قليلة حتى ليست الزى الرهبانى المقدس .
4- روى لى أحد الآباء الرهبان عن راهب اخر قال : حينما بلغ سن الشباب أراد أن يهجر العالم ويترهب , فرفض أبواه الفكرة رفضا باتا وأسرعا بزواجه رغما عنه , بعد فترة توفيت زوجته فعاوده فكر الرهبنة ثانية , فرفض أبواه أيضا ولكن حدث أنه مرض مرضا شديدا وأشرف على الموت حتى خرجت من جسده روائح نتنة , وقطع كل أمل فى شفاءه . ولكن الرب الحنون مد إليه يد الشفاء فشفى , وبعد أن تملك صحته جيدا عاد ليأخذ إذن والديه ليذهب إلى أحد الأديرة ليترهب , وهنا سمح له الوالدان قائلين : إن كانت الرهبنة موت عن العالم بالبعد عنه وعن شهواته وملذاته فأنت قد مت حقيقية وأنتنت رائحتك . رأينا بعيوننا كل ما حدث وقطعنا الأمل فى شفائك , والآن وقد شفيت فهذا عمر جديد وهبه لك الرب . فاذهب واقضه فى الدير فى عبادة الرب ورضاه , والرب يقويك ويكمل جهادك إلى النفس الأخير .
وهكذا ذهب وترهب وأصبح راهبا فاضلا .
5- وتقول كاتبة كتاب " أمنا رحمة " فى خطابها إلى إحدى صديقاتها لها نمط الدعوة التى دعاها بها الرب للرهبنة فتقول " أنت تعلمين أننا عندما كنا فى السنة الثانية بالكلية ذهبنا معا لزيارة بعض الكنائس الأثرية . كانت رحلة ليس إلا , قصدنا بها زيارة المعرفة . كانت فكرة لست أدرى ممن , ولكنها فى الحقيقة كانت دعوة إلهية لى .
فى ذلك اليوم السعيد كان الله يضع يده برفق على باب القلب ويقرع ويقول " إن سمع لى أحد أدخل إليه وأتعشى معه وهو معى " . أما أنا فكنت صماء لا أسمع , عمياء لا أبصر , لكنه لفرط محبته أظهر لى قبسا من نور كان هو طريق الهداية .
لقد تجولنا حتى تعبنا وسط الكنائس الأثرية وأخيرا قادتنا أقدامنا إلى بناء بسيط هو دير " للعذارى " .
وفى الدير تعرفت هذه الفتاة على " أمنا رحمة " الراهبة المثالية فى بساطتها وتواضعها وبذلها وخدمتها للآخرين . وعن طريقها أحبت الدير وأحبت الرهبنة وأخذت تترددعلى الدير كثيرا حتى تخرجت من الكلية وذهبت إلى الدير وترهبت بعد أن تركت عملها ومستقبلها كطبييبة .
هذه نماذج من الدعوات الرهبانية على الطبيعة ومازال أصحابها أحياء يشهدون بأن الرهبنة دعوة . شعروا بدعوة الرب لهم لاستعدادات وميول مناسبة أوجدها فيهم وهم بدورهم لبوا الدعوة واستجابوا لها أو بالحرى أسلموا نفوسهم للرب فتمم فيهم مسرة إرادته .