يُعدّ الصلاح والاستقامة من أسمى القيم الروحية والأخلاقية التي دعا إليها الكتاب المقدس وأكد عليها آباء الكنيسة الأرثوذكسية. فهما يعكسان صورة الله في الإنسان، ويقودا المؤمن إلى حياة القداسة والشركة مع الله. وقد شغلت هذه الفضائل حيّزاً كبيراً حتى في الفلسفة القديمة، وفي علم النفس الحديث يربط ما بين الاستقامة والصحة والنضج الإنساني.
اولاً: الصلاح والاستقامة في الكتاب المقدس
+ الصلاح هو ثمرة الروح القدس (غلا 5: 22)، ويشير إلى الميل العميق لفعل الخير والرحمة والإحسان.
ويصف الكتاب المقدس الله بانه صالح ومستقيم لذلك يعلمنا طرقه { الرب صالح ومستقيم لذلك يعلّم الخطاة الطريق} (مز 25: 8). والصلاح مرتبط بالبر والمحبة، ويظهر في أفعال عملية مثل الرحمة والعدل والتقوى.
+ أما الاستقامة تعني النزاهة، الثبات على الحق، ورفض المكر والاعوجاج. يقول الكتاب أن منهج المستقيمين هو الحيدان عن الشر { مَنْهَجُ الْمُسْتَقِيمِينَ الْحَيَدَانُ عَنِ الشَّرِّ. حَافِظٌ نَفْسَهُ حَافِظٌ طَرِيقَهُ. }(ام ١٦: ١٧) وبر المستقيمين ينجيهم {بِرُّ الْمُسْتَقِيمِينَ يُنَجِّيهِمْ، أَمَّا الْغَادِرُونَ فَيُؤْخَذُونَ بِفَسَادِهِمْ.} (ام ١١: ٦). الاستقامة تُعبّر عن وحدة الفكر والقلب مع العمل، بحيث أن يكون الإنسان صادقاً مع الله ومع ذاته ومع الآخرين.
ثانياً: الصلاح والاستقامة في فكر الآباء
- يؤكد القديس أثناسيوس أن الصلاح ليس مجرد فضيلة أخلاقية بل هو اتحاد بالله مصدر كل صلاح.
- ويربط القديس يوحنا الذهبي الفم بين الصلاح والرحمة العملية، قائلاً: «لا يُحسب الإنسان صالحاً إذا اكتفى بالفضائل الداخلية، بل إذا ترجمت فضائله إلى خدمة الفقراء والمحتاجين».
- ويشدد الانبا أنطونيوس الكبير على الاستقامة الداخلية قائلاً: «كما أن الثوب الأبيض النقي يُظهر بقعة صغيرة، هكذا القلب المستقيم لا يحتمل خداعاً ولو بسيطاً». وقد ربط آباء البرية بين الاستقامة والبساطة فالإنسان المستقيم لا يعرف المكر أو الازدواجية.
ثالثاً: الصلاح والاستقامة في الفلسفة وعلم النفس
- في الفلاسفة اليونان رأى أفلاطون أن الصلاح هو "الخير الأسمى" وهو غاية الفلسفة، وأن النفس الفاضلة تميل بطبعها إلى الخير. وركز أرسطو على "الفضيلة الوسطية"، معتبراً أن الصلاح يعني العيش بحسب العقل والفضيلة.
- الفكر المسيحي الفلسفي للقديس أوغسطينوس وتوما الأكويني يدمج بين الحكمة والإعلان الإلهي، مؤكداً أن الله هو الخير المطلق، وأن الاستقامة هي مطابقة الإرادة البشرية لإرادة الله.
- وفي علم النفس الإيجابي، تُعتبر النزاهة والاستقامة من أهم مقومات الشخصية الناضجة والمتوازنة. فيرى كارل روجرز أن "التطابق" بين الداخل والخارج أساس الصحة النفسية، وهو ما يوازي الاستقامة الروحية. وتربط أبحاث السلوك الإيجابي بين الصلاح ومستويات أعلى من السعادة والرضا النفسي، وتظهر أن الأشخاص الصالحين أكثر قدرة على بناء علاقات إنسانية مستقرة.
رابعاً: أمثلة لرجال الله القديسين المشهورين بالصلاح والاستقامة
- أيوب الصديق: شهد عنه الكتاب أنه «كان كاملاً ومستقيماً يتقي الله ويحيد عن الشر» (أي ١:١).
- يوسف الصديق: مثال للاستقامة في نقاوة القلب ورفض الخطية، رغم التجارب القاسية.
- القديس أثناسيوس الرسولي: قاوم البدع والأريوسية بثبات واستقامة، حتى نُفي مرات عديدة لكنه لم يحِد عن الإيمان.
خامساً: كيف ننمو في الصلاح والاستقامة؟
- الثبات في المسيح: بالاتحاد بالمسيح من خلال الصلاة والأسرار نقتني الصلاح الذي هو عطية الروح القدس.
- التمسك بالوصية: كلمة الله هي النور الهادي لطريق الاستقامة (مز ١٠٥:١١٩).
- الجهاد ضد الذات: رفض الأنانية والبعد عن الشر والالتصاق بالخير والبذل يقود الي الاستقامة.
- الأعمال الصالحة: العطاء، خدمة الآخرين، الرحمة، ومساندة المظلومين.
- الإرشاد الروحي: الخضوع لتلمذة روحية على يد مرشد حكيم يساعد على النمو المتوازن.
- التدرّب النفسي: بالوعي الذاتي وضبط النفس وتنمية النزاهة في الفكر والقرار.
الصلاح والاستقامة ليسا مجرد فضيلتين أخلاقيتين، بل هما تعبير عن الاتحاد بالله والعيش في حضرته. ومن خلالهما يشهد المسيحي للعالم أن النور أقوى من الظلمة، وأن الحياة مع الله هي حياة الحق والخير.
القمص أفرايم الأنبا بيشوى
مراجع
- الكتاب المقدس
- أثناسيوس الرسولي، تجسد الكلمة.
- يوحنا الذهبي الفم، العظة على التطويبات.
- أنطونيوس الكبير، أقوال الآباء (Apophthegmata Patrum).
- القمص تادرس يعقوب ملطي، تفسير أسفار الكتاب المقدس.
- يوسف حبيب، آباء البرية.
- Plato, The Republic.
- Aristotle, Nicomachean Ethics.
- Carl Rogers, On Becoming a Person.
- Martin Seligman, Authentic Happiness.

