للحرية أهميتها في الحياة الإنسانية، فهي حق اجتماعي وسياسي كما أنها والأهم عطية روحية أعمق تتحقق في حياة الإنسان من خلال علاقته بالله. الحرية تحرر خارجي من القيود وتحرر داخلي من عبودية الخطية والشهوات، وانطلاق الإنسان ليحيا في محبة الله والآخرين. وكما قال الرب يسوع المسيح { فَإِنْ حَرَّرَكُمُ الاِبْنُ فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ أَحْرَارًا} (يو ٣٦:٨ ). ومن هنا يتضح أن الحرية هي عطية خلاصية في المسيح فيها يتحرر المؤمن من الخطية ومن إبليس وخداعه ومن تأنيب الضمير ويطيع الله في حرية بدافع المحبة ويمارس العبادة بحرية ابناء الله وتحرر من الشهوات والخطايا وأنقياد لروح الله.
أولاً: الحرية في الكتاب المقدس وفكر الآباء
+ يظُهر العهد القديم الحرية كخلاص من العبودية للغير { فَقَالَ الرَّبُّ: «إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ مَذَلَّةَ شَعْبِي الَّذِي فِي مِصْرَ وَسَمِعْتُ صُرَاخَهُمْ مِنْ أَجْلِ مُسَخِّرِيهِمْ. إِنِّي عَلِمْتُ أَوْجَاعَهُمْ، فَنَزَلْتُ لأُنْقِذَهُمْ} (خر ٣: ٧، ٨).فالحرية ارتبطت بالتحرر من العبودية للغير أو الخطية أو التحرر من الوثنية للعيش في عهد مع الله (تث ٦:٥).{ وَيَكُونُ فِي يَوْمٍ يُرِيحُكَ الرَّبُّ مِنْ تَعَبِكَ وَمِنِ انْزِعَاجِكَ، وَمِنَ الْعُبُودِيَّةِ الْقَاسِيَةِ الَّتِي اسْتُعْبِدْتَ بِهَا}(إش ١٤: ٣). ويؤكد الأنبياء على أن الحرية الحقيقية تتحقق في طاعة الله وليس في الانفلات من الظلم فقط (إر ١٥:٣٤-١٧).
+ وفي في العهد الجديد يركز العهد الجديد على الحرية من الخطية والموت { لأَنَّ نَامُوسَ رُوحِ الْحَيَاةِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ قَدْ أَعْتَقَنِي مِنْ نَامُوسِ الْخَطِيَّةِ وَالْمَوْتِ}(رو٢:٨). والحرية من حرفية الناموس { لِلْحُرِّيَّةِ قَدْ دَعَانَا الْمَسِيحُ. فَاثْبُتُوا إِذًا، وَلَا تَرْتَبِكُوا أَيْضًا بِنِيرِ عُبُودِيَّةٍ} (غل 5: 1). الحرية ليس فرصة للجسد او الخطية بل تحرر داخلي يجعل المؤمن يخدم الجميع وفي محبة أخوية { وَأَمَّا أَنْتُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ فَقَدْ دُعِيتُمْ إِلَى الْحُرِّيَّةِ. غَيْرَ أَنَّهُ لاَ تَصِيرُوا الْحُرِّيَّةَ فُرْصَةً لِلْجَسَدِ، بَلْ بِالْمَحَبَّةِ اخْدِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا} (غل١٣:٥).
+ مفهوم الحرية عند آباء الكنيسة
* اكد القديس اثناسيوس الرسولي أن تجسد الكلمة منحنا حرية من الفساد والموت وأن المسيح هو الذي عتقنا من عبودية إبليس.
* وقد اوضح القديس كيرلس الكبير أن الحرية هى الدخول في شركة مع المسيح، فالخطية تجعل الإنسان عبد أما الاتحاد بالمسيح فيحررنا من ربط الخطية ويصيرنا أحرار.
* والقديس أغسطينوس يقول أن الحرية الحقيقية ليست في أن نفعل ما نريد، بل أن نكون قادرين أن لا نخطئ. فالإنسان الحر هو الذي يتحرر من سلطان الخطيئة بمحبة الله.
* ويرى القديس يوحنا ذهبي الفم أن الحرية الحقيقية لا تُقاس بالظروف الخارجية، بل بحياة الفضيلة. فالقديس في السجن أكثر حرية من الخاطئ الغارق في شهواته.
ثانيا: الحرية كحق إنساني أصيل
الحرية ايضاً هي قدرة الإنسان على اتخاذ قراراته واختياراته في حدود ما لا يضر بالآخرين أو بالمجتمع، وهي تعني التحرر من القيود غير العادلة سواء كانت قيودًا سياسية أو اجتماعية أو فكرية أو دينية أو اقتصادية. لذلك الحرية هى حق إنساني طبيعيً يولد مع الإنسان. الحرية ليس منحة بل تعترف بها القوانين وتكفلها، حتى لو عانى البعض من نظم مستبدة، وينص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (١٩٤٨م.) في مادته الأولى على أن: "يولد جميع الناس أحرارًا متساوين في الكرامة والحقوق". وتُعتبر الحرية أساس لممارسة باقي الحقوق كحرية الرأي، والعقيدة، وحرية التنقل، والمشاركة السياسية. ولذلك فهناك اشكال للحرية كالحرية الشخصية وحق الفرد في الأمان على حياته وخصوصيته. والحرية الفكرية والعقائدية كحق الفرد في التفكير والتعبير والإيمان. وحرية سياسية كحق الموطن في المشاركة في الحكم ومن يمثله. وحرية اقتصادية واجتماعية كحق الفرد في حرية العمل والملكية والتنظيم. والحرية تعطي للإنسان كرامته وتحقق له الشعور بالمسؤولية. والحرية شرط أساسي للإبداع والتقدم العلمي والثقافي. وبدون الحرية تتحول المجتمعات إلى ساحات قمع وظلم، فالحرية ليست مجرد مطلب فردي، بل هي أساس بناء المجتمع الديمقراطي العادل وضمانة لاحترام كرامة الإنسان.
ثالثاً: العبودية التي تسلب الحرية
- عبودية الخطية
اكد السيد المسيح أن من يفعل الخطية هو عبد لها { كُلُّ مَنْ يَعْمَلُ الْخَطِيَّةَ هُوَ عَبْدٌ لِلْخَطِيَّةِ} (يو ٣٤:٨). فالخطية تسيطر على الإرادة وتستعبد النفس وتدمر الحرية الداخلية.
- عبودية الإدمان
سواء كان إدمان الشهوات، أو المخدرات، أو الإنترنت، أو أي عادة رديئة. { وَإِنَّمَا أَقُولُ: اسْلُكُوا بِالرُّوحِ فَلاَ تُكَمِّلُوا شَهْوَةَ الْجَسَدِ. لأَنَّ الْجَسَدَ يَشْتَهِي ضِدَّ الرُّوحِ وَالرُّوحُ ضِدَّ الْجَسَدِ، وَهذَانِ يُقَاوِمُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، حَتَّى تَفْعَلُونَ مَا لاَ تُرِيدُونَ. وَلكِنْ إِذَا انْقَدْتُمْ بِالرُّوحِ فَلَسْتُمْ تَحْتَ النَّامُوسِ.} (غل ٥: ١٦-١٨). الإدمان يسلب ارادته الحرة، ويجعل الإنسان أسيراً لما يشتهي.
- عبودية المال
ان المال خادم جيد لكنه سيد قاسي يستعبد من يخدمه { لَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ… لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا اللهَ وَالْمَالَ} (مت ٢٤:٦). محبة المال والمجد الباطل تجعل الإنسان خادماً لأطماع لا تشبع، ويفقد الإنسان حريته الروحية. { لأَنَّ مَحَبَّةَ الْمَالِ أَصْلٌ لِكُلِّ الشُّرُورِ، الَّذِي إِذِ ابْتَغَاهُ قَوْمٌ ضَلُّوا عَنِ الإِيمَانِ، وَطَعَنُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَوْجَاعٍ كَثِيرَةٍ.} (١ تيم ٦: ١٠)
رابعاً: كيف نحصل على الحرية في المسيح؟
- الإيمان بالمسيح والاتحاد به: الحرية عطية من المسيح المخلص.
- المعمودية: دخول الإنسان إلى حياة جديدة فيها يموت مع المسيح ويقوم معه (رو ٤:٦-٧).
- التوبة والاعتراف: تحرر مستمر من قيود الخطية.
- الامتلاء بالروح القدس: «حَيْثُ رُوحُ الرَّبِّ هُنَاكَ حُرِّيَّةٌ» (٢ كو١٧:٣).
- المحبة العملية: الحرية المسيحية ليست أنانية، بل تتحقق في عطاء وبذل. (غل١٣:٥).
- ممارسة الفضائل الروحية: مثل الصوم، الصلاة، الخدمة، فهي تقوي الإرادة وتحرر من الشهوات.
خامساً: الأبعاد النفسية والاجتماعية للحرية
- الحرية في المسيح تمنح الإنسان سلامًا داخليًا لأنه لا يعود أسيراً للشهوات.
- ونفسيًا الحرية تُعيد للإنسان اتزانه وكرامته، وتمنحه قوة لمواجهة الإدمان باشكاله المختلفة.
- واجتماعيًا ..تمنح الحرية الإنسان روح الخدمة، فيسعى لبناء المجتمع بمحبة ومساواة.
- الحرية المسيحية تحمي من التطرف والانغلاق، لأنها تُربط دائمًا بالمسؤولية.
+ الحرية في المسيحية ليست مجرد شعار أو حق سياسي، بل هي حياة في المسيح الذي أعتقنا من عبودية الخطية والموت. إنها حرية مسؤولة، تُترجم في المحبة والخدمة وبذل الذات. كلما اقتربنا من المسيح واتحدنا به بالإيمان والأسرار والنعمة، اختبرنا الحرية الكاملة التي تعطي معنى جديدًا للحياة.
القمص أفرايم الأنبا بيشوى
المراجع
- الكتاب المقدس
- القديس أثناسيوس الرسولي – تجسد الكلمة.
- القديس أغسطينوس – الاعترافات.
- القديس يوحنا ذهبي الفم – عظات على رسالة غلاطية.
- كيرلس الكبير – تفسير إنجيل يوحنا.
- كتابات البابا شنوده الثالث – الحرية في المسيحية.
- ج. مولتمان، لاهوت الرجاء والحرية.

