تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 

+ تُعدّ محاسبة النفس من أهم الممارسات الروحية، إذ ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالتوبة والنمو في النعمة. المسيحي مدعوّ أن يعيش حياة وعي داخلي دائم، واضعاً ذاته أمام نور الله، ليكتشف ضعفه ويطلب عمل النعمة في أعماقه. الكتاب المقدس يحثّنا مراراً على السهر الروحي والصلاة وتمييز الأرواح، بينما الآباء القديسون رأوا في محاسبة النفس طريقاً للاتضاع، ونقطة انطلاق للحياة المقدّسة والاتحاد بالله.

أولاً: محاسبة النفس في الكتاب وفكر الآباء

+ يصلي المرنم قائلاً: { جَرِّبْنِي يَا اللهُ وَاعْرِفْ قَلْبِي. امْتَحِنِّي وَاعْرِفْ أَفْكَارِي. وَانْظُرْ إِنْ كَانَ فِيَّ طَرِيقٌ بَاطِلٌ، وَاهْدِنِي طَرِيقًا أَبَدِيًّا} (مز 139: 23-24). هنا يظهر البُعد الإلهي لمحاسبة النفس فهي ليس مجرد تفتيش ذاتي، بل تعريض القلب أمام الله ليكشف أعماقه. ويدعو الله  إلى فحص النفس والرجوع الي الله  { لِنَفْحَصْ طُرُقَنَا وَنُفَتِّشْ وَنَرْجِعْ إِلَى الرَّبِّ} (مرا 3: 40). بل ويريد الله ان نتحاور معه ونتوب اليه ليغفر خطايانا  { هَلُمَّ نَتَحَاجَجْ، يَقُولُ الرَّبُّ. إِنْ كَانَتْ خَطَايَاكُمْ كَالْقِرْمِزِ تَبْيَضُّ كَالثَّلْجِ. إِنْ كَانَتْ حَمْرَاءَ كَالدُّودِيِّ تَصِيرُ كَالصُّوفِ.} (إش ١: ١٨). والسيد المسيح يدعونا لحساب النفس{ وَمَنْ مِنْكُمْ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بُرْجًا لاَ يَجْلِسُ أَوَّلاً وَيَحْسِبُ النَّفَقَةَ، هَلْ عِنْدَهُ مَا يَلْزَمُ لِكَمَالِهِ؟} (لو ١٤: ٢٨). من يريد ان يصل الي السماء ويبني ذاته روحياً عليه ان يحاسب نفسه. والقديس بولس الرسول يوصينا { لِيُجَرِّبِ الإِنْسَانُ نَفْسَهُ، وَهكَذَا يَأْكُلْ مِنَ الْخُبْزِ وَيَشْرَبْ مِنَ الْكَأْسِ} (1كو 11: 28). محاسبة النفس لاسيما قبل التناول من الاسرار المقدسة ضرورة روحية. كذلك يقول: { جَرِّبُوا أَنْفُسَكُمْ، هَلْ أَنْتُمْ فِي الإِيمَانِ؟ امْتَحِنُوا أَنْفُسَكُمْ. أَمْ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَ أَنْفُسَكُمْ، أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ فِيكُمْ، إِنْ لَمْ تَكُونُوا مَرْفُوضِينَ؟} (٢ كورنثوس ١٣: ٥). الكتاب المقدّس يضع محاسبة النفس في إطارٍ مزدوج: فحص صادق للضمير، وانفتاح على عمل النعمة الإلهية.

+ محاسبة النفس في فكر آباء الكنيسة

يوصى القديس أنطونيوس الكبير تلاميذه قائلاً «اجعلوا لكم قانوناً أن تحاسبوا أنفسكم كل يوم، هل أنتم مرضيون أمام الله أم لا. فإن وجدتم فيكم تقصيراً، فلتبكوا وتندموا، ولتسعوا إلى إصلاح حياتكم». ويرى الأنبا انطونيوس أن هذه المحاسبة اليومية هي طريق الاتضاع واليقظة الروحية. أما القديس يوحنا الذهبي الفم فيربط بين فحص النفس والاتضاع قائلاً: «من يحاسب نفسه هنا، لا يُحاكَم هناك. لأن الذي يدين ذاته، ينال رحمة من الله». ويشبه ذلك ببيت يتم فحص أساساته قبل أن تهدمه العواصف. والقديس باسيليوس الكبير يشدّد على أن الإنسان لا يقف فقط عند اكتشاف خطاياه، بل يحوّلها إلى فعل توبة : «من يحاسب نفسه ويعترف بخطيئته، ينال الغفران، أمّا من يخفيها فتبقى تثقل قلبه». ويربط القديس مرقس الناسك بين محاسبة النفس وحفظ الوصايا قائلاً: «من لا يفحص قلبه كل يوم، كيف يعرف إن كان يسير في الوصية أو يخالفها؟».

ثانياً: البُعد الروحي لمحاسبة النفس

 محاسبة النفس تحفظ القلب في حالة يقظة، وتُبعد المؤمن عن الغفلة الروحية التي حذّر منها السيد المسيح قائلاً : { اسهروا وصلّوا لئلا تدخلوا في تجربة} (مت 26: 41). فمحاسبة النفس ليست مجرد تحليل نفسي أو مراجعة أخلاقية، بل وقوف أمام الله الديّان العادل، في ضوء الصليب والقيامة. إنها عمل نعمة يُعيد للإنسان صورته الأولى في المسيح. ويؤكد علم النفس الحديث  علي "التأمل الذاتي" (self-reflection) كوسيلة للنمو الشخصي، لكن الكنيسة أضافت بُعداً روحي عميق فالمؤمن لا يراجع ذاته بمعزل عن الله، بل في حضرته. هنا يتحوّل الفحص إلى علاقة حيّة مع الله تُثمر التوبة والسلام الداخلي.

+ محاسبة النفس والرجاء الحي

الإنجيل لا يوقفني عند ضعفي فقط، بل يفتح لي باب النعمة والرجاء. الرسول بولس بعد أن قال: { ويحي أنا الإنسان الشقي، من ينقذني من جسد هذا الموت؟} (رو ٧: ٢٤) أكمل قائلاً: {أشكر الله بيسوع المسيح ربنا} (رو ٧: ٢٥). فالكنيسة تربي أولادها على هذا التوازن: أن أرى نفسي خاطئ محتاجً، لكن محبوبًا ومفتدى بالدم الكريم.

معرفة النفس في ضوء الإنجيل وفكر الكنيسة القبطية هي أن أقف أمام الله في الصلاة ولي فكر المسيح المقدس فأرى ضعفي واحتياجي، وأختبر محبة الله التي تعيد لي صورته. حينها أفهم نفسي على حقيقتها: تراب ضعيف، لكنه يحمل صورة الله، وخاطئ محتاج، لكنه ابن محبوب في المسيح.

+ ثالثاً: تداريب للنمو والتغيير ..

١ - فحص النفس أمام الله ..خصّص كل يوم دقائق هادئة قبل النوم لفحص نفسك في حضرة الله. و اسأل نفسك: كيف كان كلامي اليوم؟ هل أعيش المحبة الحقيقية؟ هل كنت متواضعًا أم أناني؟ولنختم دائمًا بصلاة قصيرة: "أرني يا رب ضعفي حتى ألتجئ إليك واقبل توبتي وأرحمني". هكذا يدعونا الكتاب أن لا نقلد او نسير مع أهل هذا الدهر بل نتغير بتجديد اذهاننا لنعمل ارادة الله الصالحة { وَلاَ تُشَاكِلُوا هذَا الدَّهْرَ، بَلْ تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ، لِتَخْتَبِرُوا مَا هِيَ إِرَادَةُ اللهِ: الصَّالِحَةُ الْمَرْضِيَّةُ الْكَامِلَةُ.} (رو ١٢: ٢)

٢ - قراءة الإنجيل والعمل بوصياه... لا نقرأ الإنجيل لمجرد المعرفة، بل كأنه رسالة شخصية تكشف قلوبنا وعندما نجد وصية أو موقفًا، لنقُل: "هل أنا أعيش هذا؟ أم أعارضها ؟" كمثل عند قراءة التطويبات (مت ٥) اجعلها ميزانًا تكشف حالتي الروحية ونموي في النعمة.

٣- صلاة المزامير بروح التوبة.. المزامير في الأجبية ليست مجرد طقس، لكنها لغة النفس أمام الله. فعندما أصلي: "ارحمني يا الله كعظيم رحمتك" (مز ٥٠) لا أرددها فقط، بل أقف أمام الله كالعشار الذي قال: "اللهم ارحمني أنا الخاطئ".

٤- سر الاعتراف.. الاعتراف ليس سرد أخطاء فقط، بل مرآة روحية تساعدك أن ترى نفسك بوضوح من خلال إرشاد الأب الكاهن. فالآباء شبّهوا الاعتراف بالوقوف أمام الطبيب: أنت تكشف جراحك وهو يرشدك للدواء.

٥- الاتضاع العملي.. لتجرّب أن تضع نفسك في آخر الكل كما علّم المسيح (لو ١٤: ١٠). ولا تدافع عن نفسك سريعًا، بل اقبل التوبيخ بصبر. فالقديس يوحنا الدرجي يقول: "طوبى للذي يرى نفسه دائمًا خاطئًا، لأنه لن يُدان".

٦- محاسبة النفس في ضوء محبة الله.. لا تجعل فحص نفسك يقودك لليأس أو جلد الذات والشعور بالذنب، بل دائمًا اربطه بالرجاء. وبعد أن ترى ضعفاتك، ارفع عينيك نحو الصليب وقل: "لكن نعمتك تكفيني" (٢كو ١٢: ٩).

٧- الشركة في الإفخارستيا.. قبل كل قداس حضّر نفسك بفحص صادق: هل في قلبي غفران للآخرين؟. التناول يكشف لي أني ضعيف لكن محبوب جدًا، إذ يسكب المسيح نفسه في داخلي. إن معرفة النفس ليست مجرد تأملات عقلية، لكنها حياة يومية من التوبة، والإنجيل، والصلاة، والاعتراف، والاتضاع. وكلما ننمو يضيء الروح القدس داخلنا لنعرف حقيقة انفسنا ونعيش نعمة الله المخلصة.

+ محاسبة النفس في ضوء الكتاب المقدس وآباء الكنيسة هي دعوة دائمة إلى اليقظة الروحية والسير في النور. إنها ليست وقوفاً مع الذات لإدانتها فقط، بل للرجوع إلى الله بروح التوبة، وطلب النعمة التي تجدّد القلب. يقول القديس أغسطينوس: «ادخل إلى داخلك، فهناك يسكن الحق. إن وجدت نفسك فارغة، فلا تيأس، لأن الله الذي كوّنك قادر أن يملأك بنوره». إن محاسبة النفس هي ممارسة يومية، تُبنى على الصلاة وفحص الضمير أمام الله، لتقود الإنسان إلى التوبة المستمرة، وإلى حياة الشركة الحقيقية مع المسيح.

 ✍ صفحة مقالات أبونا إفرايم الأنبا بيشوي