لقد كثرت وتنوعت مصادر المعرفة من حولنا في كل مجالات الحياة عن طريق الكتب وسائل الاعلام والميديا الحديثة وأصبح لدينا معرفة عن الناس والأحداث، والعلوم والدين والسياسة والاقتصاد لكن كيفية توظف هذه المعرفة لنفعنا فهذا ما يصنعه القليلين والاقلية هم الذين يدخلون إلى نفوسهم ليتعرفوا على حقيقتها، مع أن معرفة النفس هي أول الطريق إلى الله، كما قال القديس أنطونيوس الكبير: «من يعرف نفسه يعرف الله». علينا ان نعرف انفسنا ودوافعها وميولها، ضعفاتها ووزناتها. ونعالج ما فيها من أخطاء وننمي ما لدينا من أمكانيات ونقدر من حولنا ونلتمس لهم الاعذار ونكسبهم وننجح في حياتنا ونعرف الله وهدفه من خلقتنا ونسعي نحو تحقيق أهدافنا بثقة ومعرفة ونبادر بالمحبة والقبول نحو أنفسنا والأخرين.

أولاً: معرفة النفس في ضوء الكتاب المقدس

إن معرفة النفس لا تكون بالاعتماد على العقل وحده، بل في نور كلام الله فداود النبي صلى قائلًا: { اختبرني يا الله واعرف قلبي. امتحني واعرف أفكاري} (مز 139: 23). لذلك يصلي المرنم قائلاً: { أَعْيَتْ فِيَّ رُوحِي. تَحَيَّرَ فِي دَاخِلِي قَلْبِي.  بَسَطْتُ إِلَيْكَ يَدَيَّ، نَفْسِي نَحْوَكَ كَأَرْضٍ يَابِسَةٍ. سِلاَهْ.  أَسْمِعْنِي رَحْمَتَكَ فِي الْغَدَاةِ، لأَنِّي عَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ. عَرِّفْنِي الطَّرِيقَ الَّتِي أَسْلُكُ فِيهَا، لأَنِّي إِلَيْكَ رَفَعْتُ نَفْسِي.}(مز ١٤٣: ٤، ٦، ٨). والابن الضال لما رجع إلى نفسه قال: { كم من أجير لأبي يفضل عنه الخبز وأنا أهلك جوعًا}(لو 15: 17). رجوع الضال إلى نفسه كان بداية تصالحه مع نفسه ومع ابيه ويكشف لنا القديس بولس الصراع الداخلي في النفس: { ويحي أنا الإنسان الشقي، من ينقذني من جسد هذا الموت؟ أشكر الله بيسوع المسيح ربنا} (رو 7: 24-25). إن معرفة النفس تقودنا إلى الاعتراف بالضعف، ومن ثم إلى طلب المعونة الإلهية.

ثانيا : تعليم الآباء عن معرفة النفس..

القديس الأنبا أنطونيوس الكبير يقول «من يعرف نفسه يعرف الله». أي أن معرفة النفس الحقيقية لا تنفصل عن معرفة الله. والقديس مقاريوس الكبير: شبه القلب ببيت مظلم يحتاج إلى نور الروح القدس ليرى الإنسان أعماقه. أما القديس باسيليوس الكبير فقال" إن بداية الحكمة أن يعرف الإنسان ضعفه، لأن الجهل بالنفس يقود إلى الكبرياء." والقديس أغسطينوس يقول «دخلت إلى أعماق نفسي، وبمعونتك يا رب رأيت أنني لم أكن في نفسي بل فيك». القديس يوحنا ذهبي الفم: شبّه الكتاب المقدس بالمرآة التي تكشف لنا من نكون.

ثالثاً : ثمار معرفة النفس

* التوبة الحقيقية: علينا أن نعرف أنفسنا لكى نتوب ونصلي مع المرتل قائلا { عَرِّفْنِي يَا رَبُّ نِهَايَتِي وَمِقْدَارَ أَيَّامِي كَمْ هِيَ، فَأَعْلَمَ كَيْفَ أَنَا زَائِلٌ.} (مز ٣٩: ٤). فالله يدعونا الي التوبة ويقول { لاَ يَحْتَاجُ الأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ الْمَرْضَى. لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَارًا بَلْ خُطَاةً إِلَى التَّوْبَةِ.} (مر ٢: ١٧) ومن يعرف نفسه ويحاسبها ويعاتبها ويرجع الي الله يصرخ مع العشار: «اللهم ارحمني أنا الخاطئ». ولا يعود يخطئ وينمو في النعمة ومعرفة الله والثبات فيه.

* التواضع:  الإنسان عندما يعرف نفسه ويكتشف ضعفاته ويري أنه تراب وحياته ما هى ألا بخار ماء يظهر قليل ثم يضمحل يبتعد عن الكبرياء ولا يرتئي فوق ما ينبغي { فَإِنِّي أَقُولُ بِالنِّعْمَةِ الْمُعْطَاةِ لِي، لِكُلِّ مَنْ هُوَ بَيْنَكُمْ: أَنْ لاَ يَرْتَئِيَ فَوْقَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْتَئِيَ، بَلْ يَرْتَئِيَ إِلَى التَّعَقُّلِ.} (رومية ١٢: ٣)

* عدم الإدانة: من يعرف ضعفه لا يدين الآخرين، بل يرحمهم وهكذا يوصينا الرب قائلاً  { لاَ تَدِينُوا لِكَيْ لاَ تُدَانُوا، لأَنَّكُمْ بِالدَّيْنُونَةِ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ تُدَانُونَ، وَبِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ.} (مت ٧: ١، ٢)

* الانفتاح على نعمة الله:  القلب المنسحق يطلب معونة  الله ونعمته فهو يعمل مع متواضعي القلوب { فَإِذْ قَدْ تَبَرَّرْنَا بِالإِيمَانِ لَنَا سَلاَمٌ مَعَ اللهِ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ،  الَّذِي بِهِ أَيْضًا قَدْ صَارَ لَنَا الدُّخُولُ بِالإِيمَانِ، إِلَى هذِهِ النِّعْمَةِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا مُقِيمُونَ} (رو ٥: ١، ٢) وعندما ينكر الإنسان ذاته ويدرك خطاياه وضعفاته يثبت في المسيح ويثمر والنعمة تنقيه ليأتي بثمر اكثر.

+ علينا أن نفحص أنفسنا كل يوم في ضوء الإنجيل ونسأل أنفسنا بصدق: هل نحن أبناء لله وتائبون أم بعيدين عن الله ونحيا في الخطية؟. لنطلب من الروح القدس أن يكشف أعماق قلوبنا، لكي نعرف ضعفنا فنطلب قوة المسيح كما يطلب منا الكتاب { فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ بِرَأْفَةِ اللهِ أَنْ تُقَدِّمُوا أَجْسَادَكُمْ ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللهِ، عِبَادَتَكُمُ الْعَقْلِيَّةَ.  وَلاَ تُشَاكِلُوا هذَا الدَّهْرَ، بَلْ تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ، لِتَخْتَبِرُوا مَا هِيَ إِرَادَةُ اللهِ: الصَّالِحَةُ الْمَرْضِيَّةُ الْكَامِلَةُ. }(رومية ١٢: ١، ٢). أن معرفة النفس هي باب الحياة الروحية السليمة. من يعرف نفسه يعرف الله. ومن يعرف الله يتغير ليكون علي صورة خالقه. فلنصرخ كل يوم مع داود النبي: «قلبًا نقيًا اخلق فيَّ يا الله، وروحًا مستقيمًا جدد في داخلي» (مز 51: 10). وننمو في النعمة وفي معرفة الله، أمين.

 ✍ صفحة مقالات أبونا إفرايم الأنبا بيشوي