تُعد معرفة الله غاية وهدف أسمى للمؤمن بحسب التقليد المسيحي واللاهوت الآبائي. فحياة الإنسان لا تجد معناها العميق والحقيقي إلا في الدخول في علاقة حية مع خالقها فيها تعرفه وتحبه وتلتصق به وتمجده وتخدمه. فتجد سلامها لانها مخلوقة علي صورته وتفرح وتتمتع بعشرته علي الارض فتكون لحياتنا قيمة ومعني ونحقق هدفنا ورسالتنا في الحياة فمعرفه الله فخر ومجد لنا {هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: لاَ يَفْتَخِرَنَّ الْحَكِيمُ بِحِكْمَتِهِ، وَلاَ يَفْتَخِرِ الْجَبَّارُ بِجَبَرُوتِهِ، وَلاَ يَفْتَخِرِ الْغَنِيُّ بِغِنَاهُ. بَلْ بِهذَا لِيَفْتَخِرَنَّ الْمُفْتَخِرُ: بِأَنَّهُ يَفْهَمُ وَيَعْرِفُنِي أَنِّي أَنَا الرَّبُّ الصَّانِعُ رَحْمَةً وَقَضَاءً وَعَدْلاً فِي الأَرْضِ، لأَنِّي بِهذِهِ أُسَرُّ، يَقُولُ الرَّبُّ. }(إر ٩: ٢٣، ٢٤). وقد جاء المسيح ليعرفنا محبة الله الأبوية ويوحدنا فيه مع الآب وليكون لنا أذ آمنا به حياة أفضل {وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ. }(يو ١٠: ١٠) وفي السماء نحيا معه في فرح أبدي. فمعرفة الله ليست مجرد معرفة عقلية أو فلسفية، بل هي خبرة وجودية خلاصية فيها نتذوق ما أطيب الرب وما أحلي الوجود في حضرته وهذه المعرفة تقودنا إلى الاتحاد بالله في المسيح يسوع.

أولاً: الأساس الكتابي لمفهوم معرفة الله

أعلن لنا السيد المسيح أن الحياة الأبدية هي في معرفة الله: { وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته} (يو 17: 3). وهذه المعرفة ليست ثمرة جهد بشري فقط، بل أيضاً عطية إلهية للمتواضعين وأنقياء القلب: { طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله} (مت 5: 8). المؤمنين بالمسيح عندما يسلكوا بالروح يقودهم روح الله ويعلن لهم اسرار ملكوته {كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: «مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ: مَا أَعَدَّهُ اللهُ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ». فَأَعْلَنَهُ اللهُ لَنَا نَحْنُ بِرُوحِهِ. لأَنَّ الرُّوحَ يَفْحَصُ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَعْمَاقَ اللهِ. لأَنْ مَنْ مِنَ النَّاسِ يَعْرِفُ أُمُورَ الإِنْسَانِ إِلاَّ رُوحُ الإِنْسَانِ الَّذِي فِيهِ؟ هكَذَا أَيْضًا أُمُورُ اللهِ لاَ يَعْرِفُهَا أَحَدٌ إِلاَّ رُوحُ اللهِ.  وَنَحْنُ لَمْ نَأْخُذْ رُوحَ الْعَالَمِ، بَلِ الرُّوحَ الَّذِي مِنَ اللهِ، لِنَعْرِفَ الأَشْيَاءَ الْمَوْهُوبَةَ لَنَا مِنَ اللهِ.}(١ كو ٢: ٩-١٢). الروح القدس هو الذي يعلمنا ويخبرنا بالله فهو روح الشركة الذي يعلمنا ويعزينا ويرشدنا.

ثانياً: المعرفة العقلية والاختبارية

يرى الآباء أن هناك فرقًا بين المعرفة الذهنية والمعرفة الروحية الأختبارية فالمعرفة الذهنية تقوم على العقل والدراسة، لكنها تبقى ناقصة إذا لم تتحول إلى علاقة شخصية. أما المعرفة الاختبارية فهي معرفة اتحاد وحياة. يقول القديس كيرلس الكبير: "المعرفة الحقيقية بالله هي الحياة معه والسلوك في وصاياه". معرفة الله هي الطريق إلى القداسة فهي تقود إلى التقديس، لأن الله قدوس ومن يقترب منه يتقدَّس. يقول القديس باسيليوس الكبير: "من لا يعرف الله لا يقدر أن يصير قديسًا، لأن القداسة إشعاع حضوره في النفس." وهذا يتوافق مع قول الكتاب: { كونوا قديسين لأني أنا قدوس}(1 بط 1: 16). معرفة الله نعمة الهيه تحتاج منا الي جهاد روحي لنهرب من الفساد الذي في العالم ونقدم في إيماننا فضيلة ومعرفة وتعفف ومحبة وصبر وتقوى { كَمَا أَنَّ قُدْرَتَهُ الإِلهِيَّةَ قَدْ وَهَبَتْ لَنَا كُلَّ مَا هُوَ لِلْحَيَاةِ وَالتَّقْوَى، بِمَعْرِفَةِ الَّذِي دَعَانَا بِالْمَجْدِ وَالْفَضِيلَةِ،  اللَّذَيْنِ بِهِمَا قَدْ وَهَبَ لَنَا الْمَوَاعِيدَ الْعُظْمَى وَالثَّمِينَةَ، لِكَيْ تَصِيرُوا بِهَا شُرَكَاءَ الطَّبِيعَةِ الإِلهِيَّةِ، هَارِبِينَ مِنَ الْفَسَادِ الَّذِي فِي الْعَالَمِ بِالشَّهْوَةِ. وَلِهذَا عَيْنِهِ - وَأَنْتُمْ بَاذِلُونَ كُلَّ اجْتِهَادٍ - قَدِّمُوا فِي إِيمَانِكُمْ فَضِيلَةً، وَفِي الْفَضِيلَةِ مَعْرِفَةً، وَفِي الْمَعْرِفَةِ تَعَفُّفًا، وَفِي التَّعَفُّفِ صَبْرًا، وَفِي الصَّبْرِ تَقْوَى، وَفِي التَّقْوَى مَوَدَّةً أَخَوِيَّةً، وَفِي الْمَوَدَّةِ الأَخَوِيَّةِ مَحَبَّةً. }(٢ بط ١: ٣-٧).

ثالثا- الصلاة كمدخل إلى معرفة الله

يرى القديس غريغوريوس النزينزي أن اللاهوتي الحقيقي هو المصلي فالصلاة هى صلة وأتصال بالله : "اللاهوتي هو من يصلي حقًا، ومن يصلي حقًا هو اللاهوتي."والصلاة ليست تلاوة كلمات، بل هي انفتاح القلب على الله، ومن خلالها يدخل الإنسان في خبرة معرفة الله. والسيد المسيح، كلمة الله المتجسد، طريقنا لمعرفة الله الآب { اَللهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلابْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ. }(يو ١: ١٨).  الرب يسوع المسيح هو الوسيط الوحيد لمعرفة الله، لأنه { فيه يحل كل ملء اللاهوت جسديًا} (كو 2: 9). وهو القائل { أَيُّهَا الآبُ الْبَارُّ، إِنَّ الْعَالَمَ لَمْ يَعْرِفْكَ، أَمَّا أَنَا فَعَرَفْتُكَ، وَهؤُلاَءِ عَرَفُوا أَنَّكَ أَنْتَ أَرْسَلْتَنِي.  وَعَرَّفْتُهُمُ اسْمَكَ وَسَأُعَرِّفُهُمْ، لِيَكُونَ فِيهِمُ الْحُبُّ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي بِهِ، وَأَكُونَ أَنَا فِيهِمْ».} (يو ١٧: ٢٥، ٢٦). ويؤكد القديس إيريناوس: "مجد الله هو الإنسان الحي، وحياة الإنسان هي رؤية الله." فالمسيح يسوع ربنا يقول: { أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي. } (يو١٤: ٦). ومن خلال الاتحاد بالمسيح في الأسرار الكنسية ننال معرفة الله كخبرة خلاصية يومية تنمو دائما.

رابعاً: المعرفة الحقيقية تُثمر المحبة ..

المعرفة الحقيقية لا تنفصل عن الفضيلة. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: "من عرف الله أحبّه، ومن أحبّه جاهد في الفضيلة، ومن جاهد في الفضيلة صار شريكًا في مجده." وهكذا فإن المعرفة ليست مجرد غاية فكرية، بل هي قوة روحية تغيّر الحياة وتُترجم إلى محبة عملية لله وللقريب وللخير.

+ يتضح لنا من خلال الكتاب المقدس وتعليم آباء الكنيسة أن معرفة الله هي الهدف الأسمى للحياة المسيحية. هذه المعرفة ليست إدراكًا عقليًا مجردًا، بل هي عطية إلهية تُمنح للذين يسلكون في النقاوة والصلاة والمحبة. إنها معرفة خلاصية تقود إلى القداسة، وتنمو بالاتحاد بالمسيح في الأسرار الكنسية، وتُثمر في النهاية محبة وفضيلة.وفي النهاية تقود للحياة الأبدية وتكتمل هذه المعرفة بمعاينة الله "وجهًا لوجه" (1 كو 13: 12). وهكذا نستطيع أن نردد مع القديس أغسطينوس: "خلقتنا لك يا الله، وقلوبنا لن تجد راحة إلا فيك.". فلينعم الله لنا بعلم معرفته الحقيقي ولنضئ علي شكل جسده المحيي ويتمجد في حياتنا كل حين، أمين.

 ✍ صفحة مقالات أبونا إفرايم الأنبا بيشوي