الطاعة هي إحدى القيم الجوهرية في الحياة المسيحية والإنسانية عامة، إذ تعبّر عن الانسجام مع إرادة الله، والعمل بها بتواضع أمام الوصية، كما تعبّر عن احترام النظام والآخرين في المجتمع. فالطاعة ليست خضوع قسري، بل قبول حرّ نابع من المحبة والإيمان. وقد شغلت الطاعة مكانة محورية في الكتاب المقدس، وفي فكر آباء الكنيسة، كما تناولها علماء النفس والاجتماع باعتبارها عاملاً أساسياً في بناء الشخصية السليمة والمجتمع المتوازن.
أولاً: الطاعة في الكتاب المقدس
+ اوصى الله ابونا آدم قائلاً { مِنْ جَمِيعِ شَجَرِ الْجَنَّةِ تَأْكُلُ أَكْلاً، وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتًا تَمُوتُ.} (تك ٢: ١٦، ١٧) وكان هذا أختبار لطاعة ابونا آدم لله ولكن لم يطيع الوصية هو وحواء أمنا وطردا من الفردوس ودبر الله لنا الخلاص بطاعة الأبن الكلمة وموته وقيامته { لأَنَّهُ كَمَا بِمَعْصِيَةِ الإِنْسَانِ الْوَاحِدِ جُعِلَ الْكَثِيرُونَ خُطَاةً، هكَذَا أَيْضًا بِإِطَاعَةِ الْوَاحِدِ سَيُجْعَلُ الْكَثِيرُونَ أَبْرَارًا.} (رو ٥: ١٩). وقد أطاع ابونا ابراهيم الله عندما دعاه { وَقَالَ الرَّبُّ لأَبْرَامَ: «اذْهَبْ مِنْ أَرْضِكَ وَمِنْ عَشِيرَتِكَ وَمِنْ بَيْتِ أَبِيكَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُرِيك}(تك ١٢: ١). فطاع وهو لا يعلم أين يذهب فباركه الله { بِالإِيمَانِ إِبْرَاهِيمُ لَمَّا دُعِيَ أَطَاعَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ عَتِيدًا أَنْ يَأْخُذَهُ مِيرَاثًا، فَخَرَجَ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ إِلَى أَيْنَ يَأْتِي. }(عب ١١: ٨). وصارت طاعة ابونا ابراهيم نموذج الإيمان العامل بالمحبة. والشعب قديما حين أطاع وصايا الرب تبارك، وحين عصى سقط في العبودية والخراب (تث 28).
+ في العهد الجديد نجد قمة الطاعة ظهرت في السيد المسيح نفسه { وإذ وُجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب}(في 2: 8). ويدعونا الكتاب إلي طاعة الله ووصاياه { كَأَوْلاَدِ الطَّاعَةِ، لاَ تُشَاكِلُوا شَهَوَاتِكُمُ السَّابِقَةَ فِي جَهَالَتِكُمْ، بَلْ نَظِيرَ الْقُدُّوسِ الَّذِي دَعَاكُمْ، كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضًا قِدِّيسِينَ فِي كُلِّ سِيرَةٍ.} (١ بط ١: ١٤، ١٥) كما أننا مدعوين لطاعة مرشدينا في الرب { أطيعوا مرشديكم واخضعوا، لأنهم يسهرون لأجل نفوسكم}(عب 13: 17). والطاعة هنا تنبع من المحبة والحرية الداخلية.
ثانياً: الطاعة في فكر الآباء وحياتهم..
• يربط القديس اثناسيوس الرسولي بين الطاعة والإيمان قائلاً إن الإيمان الحقيقي يظهر في الطاعة العملية للوصايا.
• ويرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الطاعة هي “أساس كل فضيلة”، وهي الطريق إلى التواضع والشركة مع المسيح.
• ويشدد القديس أنطونيوس الكبير على طاعة الأب الروحي، معتبرًا أن الطاعة الكاملة تقتلع الكبرياء وتفتح باب التمييز الروحي.
• واعتبر القديس باسيليوس الكبير أن الطاعة في الحياة الرهبانية هي صورة للطاعة الكنسية، حيث يعيش المؤمنون في انسجام جسد واحد تحت رأس واحد هو المسيح وأب مرشد للجماعة الرهبانية من أجل التدبير والنمو في محبة الله.
أمثلة من حياة القديسين
• إبراهيم أبو الآباء: كانت طاعته بلا تردد جعلته أبا للمؤمنين.
• والقديسة العذراء مريم في طاعتها لكلمة الملاك: «ليكن لي كقولك» (لو 1: 38) صارت باب الخلاص للعالم.
• وأطاع القديس الأنبا أنطونيوس صوت الإنجيل «اذهب بع كل مالك وأعط الفقراء...» (مت 19: 21) فصار أبا للرهبان.
ثالثاً: الطاعة في علم النفس والمجتمع
• في علم النفس تُعد الطاعة جزءاً من بناء الضمير الأخلاقي، فهي توازن بين الحرية الفردية واحترام القوانين والاخلاق. ويرى سيجموند فرويد أن الطاعة الناضجة هي ثمرة تربية سليمة وليست خضوعاً مرضياً.
• ويربط علم النفس الإيجابي بين الطاعة والقيم الداخلية والانضباط الذاتي الذي يقود إلى النجاح.
• وفي علم الاجتماع فان الطاعة للنظم والقوانين ضرورية لاستقرار المجتمع وتقدمه. فالمجتمعات التي تُعلّم الطاعة بروح المسؤولية تنتج مواطنين ملتزمين وفاعلين. لكن الطاعة العمياء دون تمييز قد تؤدي إلى الاستبداد، لذا يجب أن تُقترن الطاعة دائماً بالوعي والحرية.
رابعاً: ثمار الطاعة في حياتنا
• ثمار روحية: تنمّي التواضع، وتزيد الشركة مع الله، وتفتح أبواب البركة.
• ثمار نفسية: تمنح سلاماً داخلياً، وتساعد على النمو المتوازن للشخصية.
• ثمار اجتماعية: تحقق وحدة الأسرة، انسجام الجماعة، واستقرار المجتمع.
• ثمار عملية: تقود للنجاح والانضباط في العمل والدراسة، وتحمي الإنسان من التشتت والفوضى.
+ إن الطاعة ليس ضعف ولا خضوع قسري، بل هي قوة روحية وأخلاقية تفتح أبواب النعمة، وتُثمر في حياة الفرد والمجتمع. الطاعة الحقيقية في المسيحية هي طاعة نابعة من الحب، ممتلئة بحرية الروح القدس، ومستنيرة بكلمة الله، وهي سرّ القداسة والشركة مع المسيح.
القمص أفرايم الأنبا بيشوى
المراجع
• الكتاب المقدس
• القديس أثناسيوس الرسولي، رسائل ضد الأريوسيين.
• يوحنا ذهبي الفم، العظات على إنجيل متى.
• باسيليوس الكبير، القوانين النسكية.
• فيتوريان، "حياة القديس أنطونيوس".
• توماس ميرتون، No Man is an Island.
• Erich Fromm, Escape from Freedom.
• Freud, Civilization and Its Discontents