الإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله (تك 1: 26)، مدعو أن يحيا حياة متزنة في فكره وسلوكه، بحيث يبتعد عن التطرف في توجهاته ويبتعد عن الأنحراف للإفراط أو التفريط. فالاتزان هو ثمرة للحكمة والتمييز الروحي، وهو فضيلة تضمن انسجام حياة الإنسان مع مشيئة الله ومع ذاته ومع الآخرين. والاتزان النفسي والروحي هو حالة الاستقرار والهدوء النفسي التي تمكن الفرد من أدارة مشاعرة وسلوكه وتضمن قدرته علي التكيف مع ضغوط الحياة دون أن تسيطر عليه المشاعر السلبية ويتجاوب بعقلانية مع مواقف الحياة المختلفة.
اولاً: المفهوم الكتابي للاتزان
+ يبين سليمان الحكيم أن { لكل شيء زمان، ولكل أمر تحت السموات وقت} (جا 3: 1). ما يشير إلى ضرورة الاعتدال والاتزان في التعامل مع ظروف الحياة في وقتها المناسب. وفي سفر الأمثال يحذرنا من التطرف في الغضب أو الكسل أو الكلام { لا تكن حكيماً في عيني نفسك. اتق الرب وابعد عن الشر }(أم 3: 7). وفي العهد الجديد يحثنا الكتاب علي الاعتدال ويقول القديس بولس الرسول { ليكن حلمكم معروفاً عند جميع الناس} (في 4: 5). ويربط القديس بطرس الرسول بين اليقظة الروحية والاتزان { اصحوا واسهروا. لأن إبليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمساً من يبتلعه} (1بط 5: 8). والسيد المسيح نفسه مثال أعلى في الحكمة والاتزان وجاء عنه منذ الطفولة { كان يسوع يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس} (لو 2: 52).
ثانياً: الاتزان في أقوال الآباء وحياتهم
* عندما زار بعض الأخوة القديس الأنبا انطونيوس شاهدوه يمارس العمل ثم يستريح وعندما سالوه قال لهم " وكما أن القوس إذا شددناه أكثر من اللازم أنكسر، هكذا النفس إن لم تُعط أعتدلاً تفتر أو تتحطم".
* يرى القديس باسيليوس الكبير أن "كل فضيلة بلا اتزان تتحول إلى عيب، فالزهد بلا حكمة يقود إلى كبرياء، والغيرة بلا محبة تولّد خصام."
* ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم أن "المسيحي الحقيقي هو من يسير في الطريق الملوكي الوسط، بعيداً عن الإفراط والتقصير.".
رابعاً: سير القديسين كنماذج للاتزان
• القديس أنطونيوس: بالرغم من حياته النسكية الشديدة، كان يحافظ على التوازن بين الصلاة والعمل والخدمة، فلم ينعزل تماماً وكان يقدم المشورة للزائرين.
• القديس أثناسيوس الرسولي: قدّم نموذجاً في الاتزان بين الدفاع العقائدي والشهادة العملية بالوداعة والصبر.
ثالثاً: الاتزان في علم النفس
• علم النفس يربط بين الاتزان والصحة النفسية، حيث يُعرّفه بأنه القدرة على التوافق مع الذات ومع البيئة بشكل سليم.
• كارل يونغ شدد على "التكامل النفسي كرحلة للاتزان بين الجوانب الواعية واللاواعية.
• الدراسات الحديثة ترى أن الأشخاص المتزنين في سلوكهم أقل عرضة للاضطرابات النفسية، وأكثر قدرة على بناء علاقات اجتماعية ناجحة.
رابعاً: التطبيقات العملية للاتزان في حياتنا
• في التفكير: تجنب التسرع والأحكام المطلقة، والسعي إلى التمييز الروحي بالصلاة وقراءة الكتاب المقدس.
• في السلوك: الاعتدال في العمل والراحة، في الكلام والصمت، في الإنفاق والادخار.
• في الحياة الروحية: الموازنة بين الصلاة والعمل، بين الخدمة والتأمل، بين النسك والفرح الروحي.
• في العلاقات: مراعاة حقوق الآخرين مع الحفاظ على الحقوق الشخصية.
خامساً: كيف نحصل على الاتزان؟
• من خلال الشركة مع الله: الصلاة اليومية وطلب الحكمة والتمييز في القول والعمل.
• بالتأمل في الكتاب المقدس: حيث نجد القيم الروحية التي تهذب الفكر والسلوك.
• بتقليد سير القديسين الذين عاشوا الاتزان كطريق للقداسة.
• بالمشورة الروحية من الآباء الروحيين والاعتراف المنتظم.
• بالمعرفة الإنسانية الاستفادة من علم النفس وعلم الاجتماع لضبط الانفعالات وتحقيق التوازن في القرارات.
+ إن الاتزان فضيلة مسيحية إنسانية تضمن حياة مستقيمة مملوءة بالسلام الداخلي، وتساعد الإنسان على أن يكون شاهد للمسيح في فكره وسلوكه. هو ليس مجرد ضبط خارجي للسلوك، بل ثمرة لعمل الروح القدس في القلب، الذي يهب "روح القوة والمحبة والنصح" (2تي 1: 7).
القمص أفرايم الأنبا بيشوى
• الكتاب المقدس
• القديس باسيليوس الكبير، الرسائل.
• القديس يوحنا الذهبي الفم، العظات على إنجيل متى.
• أثناسيوس الرسولي، سيرة أنطونيوس.
• د. عادل فرج، علم النفس المسيحي، دار الثقافة.
• كارل يونغ، الإنسان ورموزه.
• سيغموند فرويد، الأنا والهو.
• الأنبا موسى، الحياة المتزنة، مطبوعات أسقفية الشباب