الحياة المسيحية ليست مجرد التزام خارجي بوصايا أو ممارسات، بل هي مسيرة وعي ونمو في شركة مع الله. وتُعد الحكمة والتمييز أو الأفراز من أعظم النعم التي يهبها الروح القدس للمؤمن. الحكمة تعني النظر العميق إلى حقائق الوجود والاشياء وهى عصارة التجارب والقناعات الراسخة وهى القول والتصرف الحسن ببصيرة روحية لتحقيق الخير والعدل وتجنب الهوى أما التمييز فهو القدرة على فرز ما هو بحسب مشيئة الله مما هو زائف، فالإنسان قد يُخدع بمظاهر أو بعواطف، فالتمييز الروحي هو النور الداخلي الذي يميز به المؤمن صوت الله من أصوات العالم. والأفراز يعني التمييز والتفرقة بين الأمور. الحكمة نعمة تعطى من روح الله لنميز بين الخير والشر، وصوت الله وأهواء النفس {امْتَحِنُوا كُلَّ شَيْءٍ. تَمَسَّكُوا بِالْحَسَنِ.} (١ تس ٥: ٢١)
اولاً: الحكمة في الكتاب المقدس
+ يبدأ سفر الأمثال بإعلان واضح: { رَأْسُ الْحِكْمَةِ مَخَافَةُ الرَّبِّ} (أم 1: 7). فالحكمة الحقيقية ليست فلسفة عقلية فقط، بل علاقة روحية قائمة على التقوى.
وقد استحسن الله طلب سليمان الملك عندما سأل الرب قائلاً: { فَأَعْطِ عَبْدَكَ قَلْبًا فَهِيمًا لأَحْكُمَ عَلَى شَعْبِكَ وَأُمَيِّزَ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ} (1مل 3: 9)، وقد اعطاه الله حكمته صار يُضرب به المثل.
+ السيد المسيح هو حكمة الله المتجسدة (1كو 1: 24)، ومنه نتعلم التواضع والتمييز الروحي { الْمُذَّخَرِ فِيهِ جَمِيعُ كُنُوزِ الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ.} (كو ٢: ٣). وكلما تتلمذنا عليه وعشنا تعاليمه ننال حكمة وأفراز وتمييز والقديس بولس الرسول يطلب من المؤمنين أن ينالوا منه { روح الحكمة والإعلان في معرفته} (أف 1: 17)، ويحثّنا الكتاب على أن نميز ونختار ما هو صالح.
ثانياً: الحكمة والتمييز عند الآباء
+ أعتبر القديس الأنبا أنطونيوس الكبير أن التمييز هو أعظم الفضائل، لأنه يقي الإنسان من المبالغة في الزهد أو التراخي في الجهاد. يقول: «كثيرون أنهكوا أجسادهم بالصوم والسهر بلا تمييز، فابتعدوا عن الطريق المستقيم». والقديس مقاريوس الكبير يشدد علي أن الحكمة والأفراز يحفظان القلب من خداعات العدو. وخصص القديس يوحنا كاسيان في كتابه "المؤسسات" فصولاً عن التمييز، مؤكداً أنه أساس كل فضيلة، لأنه ينقذ الإنسان من التطرف، ويهديه إلى الطريق الوسط الروحي الصحيح. والقديس غريغوريوس الكبير يرى أن الحكمة الحقيقية ليست كثرة المعرفة، بل ممارسة الحق في محبة.
+ والفلسفة القديمة قد ربطت بين الحكمة والبحث عن الحق، لكن الأباء ربطوا بين الحكمة والله نفسه. الفيلسوف اليوناني سقراط يقول «الحكمة هي أن تعرف أنك لا تعرف»، أما المسيحية فتقول: الحكمة أن تدرك أنك لا تستطيع أن تعرف إلا في نور الله. الحكمة هنا ليس فقط مهارة عقلية، بل عمل نعمة يمنح للإنسان الذي يحيا الصلاة والطاعة لله ووصاياه.
ثالثاً: أمثلة من رجال الله والكنيسة
• يوسف الصديق: تميز بالحكمة في تفسير الأحلام وفي إدارة مصر أثناء المجاعة {ثُمَّ قَالَ فِرْعَوْنُ لِيُوسُفَ: «بَعْدَ مَا أَعْلَمَكَ اللهُ كُلَّ هذَا، لَيْسَ بَصِيرٌ وَحَكِيمٌ مِثْلَكَ.} (تك ٤١: ٣٩).
• دانيال النبي: امتاز بروح الحكمة والتمييز، حتى أن ملوك بابل ومادي أقروا أن فيه "روح الآلهة القدوسين" (دا 5: 14).
• القديس أثناسيوس الرسولي: في مواجهته للآريوسية، أظهر تمييزاً لاهوتياً عظيماً، إذ حافظ على الإيمان المستقيم وبأن الابن مساوٍ للآب.
• القديس مقاريوس الكبير: كان يُعلّم تلاميذه أن يختبروا كل فكر يدخل قلوبهم بميزان الإنجيل.
رابعاً: ابعاد الحكمة في حياتنا..
الحكمة والتمييز ليسوا للقديسين فقط، بل يحتاجهم كل مسيحي في قرارات المصيرية (زواج، عمل، خدمة)، وحتى في ابسط الأمور نحتاج أن نميز مشيئة الله. وفي العلاقات من الغير لنعرف متى نتكلم او نصمت وماذا يجب ان يقال او نعمله، نحتاج الحكمة كي لا ننخدع بالمظاهر. وفي حياتنا الروحية، نحتاج التمييز بين صوت الضمير المستنير بالروح وبين خداعات العدو. اننا نحتاح للحكمة والافراز في علاقتنا بانفسنا لنميز الأفكار التي من الله او من الذات او من الشيطان وما المناسب ووقته المناسب حتى في ممارسة الفضائل نحتاج لعدم المبالغة أو التهاون لنسير في الطريق المستقيم وتصل سفينة حياتنا إلي بر الأمان.
خامساً: كيف نقتني الحكمة
1. طلب الحكمة من الله
يقول الكتاب: { وإنما إن كان أحدكم تعوزه حكمة فليطلب من الله الذي يعطي الجميع بسخاء ولا يعير، فسيُعطى له} (يع 1: 5). الحكمة عطية سماوية تُمنح للمتضعين والذين يطلبونها بالصلاة والإيمان.
2. الاتحاد بكلمة الله
لنوال الحكمة علينا أن ندرس الكتاب المقدس بروح الصلاة التي بها ينفتح الذهن لفهم مشيئة الله، وينال حكمة في قراراته وسلوكه. ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم قال: "الكتاب المقدس هو صيدلية النفس، ومنه تنبع الحكمة التي تُنقّي القلب."
3. الامتلاء من الروح القدس
الروح القدس هو روح الحكمة (إش 11: 2). وبالثبات في الأسرار المقدسة (الاعتراف، التناول، الصلاة)، يعمل الروح في داخلنا ليقود الفكر والقلب نحو النضج الروحي.
4. التواضع والإفراز
{ رأس الحكمة مخافة الرب} (أم 9: 10). إن التواضع يفتح القلب لقبول إرشاد الله، بينما الكبرياء تعمي القلب عن الحق. ويقول القديس الأنبا أنطونيوس الكبير : "التمييز هو أعظم الفضائل، لأنه يحفظ باقي الفضائل."
5. التلمذة والاقتداء برجال الله
التعلّم من حياة القديسين ورجال الكنيسة يعطينا حكمة عملية. لهذا يقول القديس بولس الرسول يقول: { كونوا متمثلين بي كما أنا أيضًا بالمسيح} (1 كو 11: 1). الحكمة تنمو بالخبرة، وبالمشاركة في جسد الكنيسة، وبالإرشاد الروحي من أب الاعتراف.
6. التأمل والصلاة الدائمة
الحكمة ليست سرعة في أتخاذ القرار، بل في أتخاذ القرار في عمق نظر وفحص الأمور بروح الصلاة، ليهدأ القلب، والعقل يستنير، والإنسان يسمع صوت الله في داخله. وكما يقول القديس أغسطينوس: "إن أردت أن تكون حكيمًا، فاطلب أولًا أن تكون مصليًا." أننا ننـال الحكمة الروحية عندما نطلبها بإيمان من الله، ونغتذي بكلمته، ونحيا في شركة الروح القدس، ونقتدي برجال الله، ونثبت في حياة الصلاة والتأمل. الحكمة ليست فكرة بشرية، بل هي ثمرة اتحادنا بالمسيح يسوع ربنا { المسيح قوة الله وحكمة الله}(1 كو 1: 24)
+ الحكمة والتمييز عطيتان لا غنى عنهما. والمسيحية لا تطلب من الإنسان أن يسلك بعقل منفصل عن الروح، بل بعقل مستنير بنور الله. فالحكمة تفتح للإنسان باب الشركة مع الله، والتمييز يحميه من الانحرافات. لذلك نصلي ونطلي من الله أن يهب لنا روح الحكمة والافراز والتمييز، لكي نسلك باستقامة في وصاياه ونمجد اسمه القدوس، أمين.
القمص أفرايم الأنبا بيشوى
المراجع
• الكتاب المقدس
• أقوال القديس أنطونيوس الكبير – مجموعة "أقوال الآباء".
• يوحنا كاسيان، "المؤسسات" (Institutes).
• غريغوريوس الكبير، "العظات على الإنجيل".
• أثناسيوس الرسولي، "ضد الأريوسيين".
• الأب متى المسكين، الحكمة في الكتاب المقدس.
• Henry Chadwick, The Early Church, Oxford University Press, 1993.
• Jean-Claude Larchet, Theology of Illness and Spiritual Discernment, SVS Press.

 ✍ صفحة مقالات أبونا إفرايم الأنبا بيشوي