الأمانة والصدق هما حجر الزاوية في كل علاقة إنسانية ناجحة، وهما من الفضائل الهامة التي يدعو إليها الكتاب المقدس ويركز عليها الآباء القديسون، كما يشدد علماء النفس على أهميتهما في الصحة النفسية والاجتماعية. فبدونهما تنهار الثقة، وتضطرب العلاقات، ويفقد الإنسان مصداقيته أمام الله والآخرين وأمام نفسه.
أولاً: الأمانة والصدق في الكتاب المقدس
يصف الكتاب المقدس الله بانه { هُوَ الصَّخْرُ الْكَامِلُ صَنِيعُهُ. إِنَّ جَمِيعَ سُبُلِهِ عَدْلٌ. إِلهُ أَمَانَةٍ لاَ جَوْرَ فِيهِ. صِدِّيقٌ وَعَادِلٌ هُوَ. }(تث ٣٢: ٤). ولهذا علينا ان نقابل أمانته بالشكر والعرفان ونعبده بصدق وأمانة { إِنَّمَا اتَّقُوا الرَّبَّ وَاعْبُدُوهُ بِالأَمَانَةِ مِنْ كُلِّ قُلُوبِكُمْ، بَلِ انْظُرُوا فِعْلَهُ الَّذِي عَظَّمَهُ مَعَكُمْ.} (١صم ١٢: ٢٤). وقد أدان الله الرياء وعدم الامانة { يَقْتَرِبُ إِلَيَّ هذَا الشَّعْبُ بِفَمِهِ، وَيُكْرِمُني بِشَفَتَيْهِ، وَأَمَّا قَلْبُهُ فَمُبْتَعِدٌ عَنِّي بَعِيدًا. }(مت ١٥: ٨). إن الله مقاصده وأهدافه لنا أمانة وصدق وخير { يَا رَبُّ، أَنْتَ إِلهِي أُعَظِّمُكَ. أَحْمَدُ اسْمَكَ لأَنَّكَ صَنَعْتَ عَجَبًا. مَقَاصِدُكَ مُنْذُ الْقَدِيمِ أَمَانَةٌ وَصِدْقٌ. }(إش ٢٥: ١). وينبغي أن نتعامل معه ومع الغير بالصدق { شَفَتَا الصِّدِّيقِ تَعْرِفَانِ الْمَرْضِيَّ، أَمَّا فَمُ الأَشْرَارِ فَيَعْرِفُ الأَكَاذِيبَ} (أم 10: 32). لأن الصدق يثبت اما الكذب فينكشف ويزول { الشَّفَةُ الصَّادِقَةُ تُثَبِّتُ إِلَى الأَبَدِ، أَمَّا اللِّسَانُ الْكَاذِبُ فَإِنَّهُ إِلَى طَرْفَةِ عَيْنٍ}(أم12: 19).
+ ربنا يسوع المسيح هو الذي يعلمنا ويقودنا للحياة الأبدية { أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ}(يو 14: 6). ولهذا يوصينا القديس بولس الرسول بالابتعاد عن الكذب والتكلم بالصدق قائلاً { لِذلِكَ اطْرَحُوا عَنْكُمُ الْكَذِبَ وَتَكَلَّمُوا بِالصِّدْقِ كُلُّ وَاحِدٍ مَعَ قَرِيبِهِ} (أف 4: 25). علينا ان نكون ايجابيين ونتكلم بالصدق والأمانة كاعضاء بعضنا لبعض لننجح في علاقتنا وننال المكافأة من الله في الأبدية { نِعِمَّا أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ وَالأَمِينُ، كُنْتَ أَمِينًا فِي الْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى الْكَثِيرِ} (مت 25: 21). وقد راينا أمانة يوسف الصديق في بيت فوطيفار ورفضه الخطية مما جعل الله يباركه { وَكَانَ الرَّبُّ مَعَ يُوسُفَ فَكَانَ رَجُلاً نَاجِحًا} (تك ٣٩: ٢). وصار يوسف مثال للطهارة والصدق والأمانة في كل الأجيال (تك 39). وحفظ الرب دانيال النبي الذي عاش أمينًا وسط بابل الوثنية، حتى عندمل أُلقِيَ في جب الأسود، حفظه الله ونجاه من الاسود (دانيال 6). أما حنانيا وسفيرة فقد عوقبا بالموت بسبب الكذب على الروح القدس (أع 5). ورغم صعوبة العقوبة ولكنها كانت تحذير واضح لنتيجة خيانة الأمانة والكذب علي الله ولهذا يقول لنا الإنجيل {كُنْ أَمِينًا إِلَى الْمَوْتِ فَسَأُعْطِيكَ إِكْلِيلَ الْحَيَاةِ.} (رؤ ٢: ١٠). فالإنسان الأمين يباركه الله { اَلرَّجُلُ الأَمِينُ كَثِيرُ الْبَرَكَاتِ}(ام ٢٨: ٢٠)
ثانياً: الأمانة والصدق في فكر الآباء
+ يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الكذب يقسم الإنسان داخليًا ويجعله عبدًا للخوف، بينما الصدق يحرره. واما القديس أغسطينوس فاعتبر أن الكذب لا يُبرَّر حتى لو كان الغرض نبيل لأن الحقيقة تعكس الله الذي هو الحق المطلق. ويشدد القديس الأنبا أنطونيوس على أن المسيحي الذي لا يعيش في أمانة وصدق يفقد قوته الروحية ويصير مسكنًا للأرواح الشريرة.
ثالثاً: الأمانة والصدق في علم النفس.
• الأمانة كأساس للثقة.. يؤكد علماء النفس أن العلاقات البشرية تقوم وتنجح على الثقة، وهذه تنبع من الصدق والوفاء بالوعود.
• الصحة النفسية.. الإنسان الذي يكذب باستمرار يعيش في صراع داخلي وتوتر وقلق ويلاقي المتاعب في علاقاته مع الغير لأنه يقدم صورة كاذبة عن نفسه ويبتعد الناس عن التعامل معه بعكس الامانة والصدق التي تعطى سلام وصحة نفسية.
• النمو الشخصي: يرى كارل روجرز أن الصدق شرط أساسي للنضج النفسي، وهو لا يتحقق إلا من خلال الصدق الداخلي والخارجي.
رابعاً: شهادات من تاريخ الكنيسة والواقع العملي
+ الشهيد مارجرجس كان أمينًا في إيمانه حتى الموت، لم ينكر المسيح رغم الترغيب والتعذيب الذي تعرض له حتى نال أكليل الشهادة وتكرمه الأجيال. والقديس أثناسيوس الرسولي الذي لقب بـ"عمود الإيمان" لأنه عاش أمينًا للحق ضد الأريوسيين رغم النفي والاضطهاد. وفي الرهبنة القبطية وقوانينها تشدد على الأمانة في الطاعة والصدق في الاعتراف والعفة في الفكر والحواس باعتبارها أساس الشركة الروحية.
+ في الواقع العملي علي المسيحي ان يكون أمين وصادق في عمله ملتزم بواجباته بضمير حيّ كخدمة مقدسة لله. وفي العلاقات يبني علاقاته على الصراحة والشفافية. وفي خدمته الكنسية يكون أمين في كل شئ، التعليم، وإدارة موارد الكنيسة، وفي خدمته الروحية وأمام الله نعيش في صدق داخلي، معترفين بضعفنا، ونكون أمناء في صلواتنا وعهودنا.
+ إن الأمانة والصدق ليسا مجرد أخلاقيات اجتماعية، بل هما طريق قداسة وشرط أساسي للدخول في شركة حيه مع الله. فمن يعيش في الصدق والأمانة يتمتع بالسلام الداخلي، ويحيا في ثقة من الآخرين، ويشارك الله في طبيعته الذي هو "الحق".
القمص أفرايم الأنبا بيشوى
المراجع
• الكتاب المقدس
• يوحنا الذهبي الفم، العظة على إنجيل متى.
• أغسطينوس، "عن الكذب".
• أنطونيوس الكبير، أقوال ومقالات روحية.
• H. Chadwick, The Early Church, Penguin Books, 1993.
• Thomas Aquinas, Summa Theologica, Part II-II, Q. 109 (On Truth).
• Carl Rogers, On Becoming a Person, Houghton Mifflin, 1961.
• Paul Tournier, The Meaning of Persons, Harper & Row, 1957.
• د. ماهر فايز، "الأمانة والصدق في الحياة المسيحية"، مجلة مدارس الأحد، 2018.