الرحمة من أعظم الفضائل المسيحية، فهي تعكس قلب الله المحب للبشرية. والرحمة ليست عاطفة وقتية بل هي أسلوب حياة يجمع بين الحب العملي، والمغفرة، والعطاء غير المشروط.والعطف والحنان والرأفة تجاه الجميع. الكتاب المقدس يعلن أن الله، إله رحيم { إله رحيم ورؤوف، بطيء الغضب وكثير الرحمة} (مز ٨:١٠٣). من محبة الله ونعمته علينا أنه يديم رحمته لنا لانه يعرف ضعف بشريتنا { مَحَبَّةً أَبَدِيَّةً أَحْبَبْتُكِ، مِنْ أَجْلِ ذلِكَ أَدَمْتُ لَكِ الرَّحْمَةَ.} (إر ٣١: ٣).
اولاً: الرحمة في الكتاب المقدس
في العهد القديم ارتبطت الرحمة بالوفاء بعهد الله مع شعبه وبحبه الأمين لهم، حتى وسط ضعفهم وخطاياهم.
يقول النبي ميخا { قد أخبرك أيها الإنسان ما هو صالح. وماذا يطلبه منك الرب إلا أن تصنع الحق وتحب الرحمة وتسلك متواضعاً مع إلهك} (مي 6: 8). الرحمة أيضاً مرتبطة بالعدل، حيث أوصى الله الشعب برعاية الغريب والفقير واليتيم { الصَّانِعُ حَقَّ الْيَتِيمِ وَالأَرْمَلَةِ، وَالْمُحِبُّ الْغَرِيبَ لِيُعْطِيَهُ طَعَامًا وَلِبَاسًا. فَأَحِبُّوا الْغَرِيبَ لأَنَّكُمْ كُنْتُمْ غُرَبَاءَ فِي أَرْضِ مِصْرَ. }(تث ١٠: ١٨، ١٩). ومن يرحم الفقير كمن يقرض الرب ويجازيه الله خيراً عن معروفه {مَنْ يَرْحَمُ الْفَقِيرَ يُقْرِضُ الرَّبَّ، وَعَنْ مَعْرُوفِهِ يُجَازِيهِ.} (ام ١٩: ١٧). ويطلب الله منا أن نتوب لننال رحمته { اُطْلُبُوا الرَّبَّ مَا دَامَ يُوجَدُ. ادْعُوهُ وَهُوَ قَرِيبٌ. لِيَتْرُكِ الشِّرِّيرُ طَرِيقَهُ، وَرَجُلُ الإِثْمِ أَفْكَارَهُ، وَلْيَتُبْ إِلَى الرَّبِّ فَيَرْحَمَهُ، وَإِلَى إِلهِنَا لأَنَّهُ يُكْثِرُ الْغُفْرَانَ. }(إش ٥٥: ٦، ٧)
+ وفي العهد الجديد نرى ملء الرحمة في شخص الرب يسوع المسيح الذي كشف عن قلب الآب الرحوم وقال { طوبى للرحماء لأنهم يُرحمون}(مت 5: 7). وفي مثل السامري الصالح (لو 10: 25-37) يظهر لنا الرب يسوع المسيح أن الرحمة لا تعرف حدوداً قومية أو دينية، بل هي محبة فعّالة تجاه كل إنسان محتاج. والرحمة بلغت ذروتها على الصليب، حيث غفر المسيح لصالبيه { يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون}(لو 23: 34). وبرحمة الله الغنية يغفر خطايانا ويخلصنا { اَللهُ الَّذِي هُوَ غَنِيٌّ فِي الرَّحْمَةِ، مِنْ أَجْلِ مَحَبَّتِهِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي أَحَبَّنَا بِهَا، وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ بِالْخَطَايَا أَحْيَانَا مَعَ الْمَسِيحِ بِالنِّعْمَةِ أَنْتُمْ مُخَلَّصُونَ } (أف ٢: ٤، ٥). وكما رحمنا الله ينبغي أن نرحم الكل لاسيما المحتاجين كما علمنا الرب بان ما نصنعه بالفقراء نعمله معه شخصياً ونكأفا عليه في السماء { ثُمَّ يَقُولُ الْمَلِكُ لِلَّذِينَ عَنْ يَمِينِهِ: تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي، رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ. لأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي. عَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي. كُنْتُ غَرِيبًا فَآوَيْتُمُونِي. عُرْيَانًا فَكَسَوْتُمُونِي. مَرِيضًا فَزُرْتُمُونِي. مَحْبُوسًا فَأَتَيْتُمْ إِلَيَّ. فَيُجِيبُهُ الأَبْرَارُ حِينَئِذٍ قَائِلِينَ: يَارَبُّ، مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعًا فَأَطْعَمْنَاكَ، أَوْ عَطْشَانًا فَسَقَيْنَاكَ؟ وَمَتَى رَأَيْنَاكَ غَرِيبًا فَآوَيْنَاكَ، أَوْ عُرْيَانًا فَكَسَوْنَاكَ؟ وَمَتَى رَأَيْنَاكَ مَرِيضًا أَوْ مَحْبُوسًا فَأَتَيْنَا إِلَيْكَ؟ فَيُجِيبُ الْمَلِكُ وَيَقوُل لَهُمْ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ، فَبِي فَعَلْتُمْ. }(مت٢٥: ٣٤-٤٠). وكما رحمنا الله علينا أن نرحم الغير لننال رحمة في يوم الدين { لأَنَّ الْحُكْمَ هُوَ بِلاَ رَحْمَةٍ لِمَنْ لَمْ يَعْمَلْ رَحْمَةً، وَالرَّحْمَةُ تَفْتَخِرُ عَلَى الْحُكْمِ. }(يع ٢: ١٣). ويطلب منا الله أن نتمثل به في رحمته { فَكُونُوا رُحَمَاءَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمْ أَيْضًا رَحِيمٌ. }(لو ٦: ٣٦)
ثانيا: فكر آباء الكنيسة عن الرحمة
+ أعتبر القديس يوحنا ذهبي الفم أن الرحمة تاج الفضائل، وقال: "لا يوجد شيء يجعل الإنسان شبيهاً بالله مثل الرحمة". ويشدد القديس أغسطينوس على أن أعمال الرحمة الموجهة للفقراء هي ذبائح مقبولة لدى الله وقال: "إن أعطيت فاعطي من قلب محب، فالله لا ينظر إلى حجم العطاء بل إلى محبة العاطي". ويربط القديس باسيليوس الكبير بين الرحمة والعدل، معتبراً أن ما نمتلكه هو عطية من الله ينبغي أن يُشارك به الآخرون.
ثالثاً: الرحمة وعلم النفس والواقع..
يبرز علم النفس الحديث قيمة الرحمة للصحة النفسية فالرحمة تقلل مشاعر الغضب والحقد وتزيد السلام الداخلي وتنمى السعادة فينا { فِي كُلِّ شَيْءٍ أَرَيْتُكُمْ أَنَّهُ هكَذَا يَنْبَغِي أَنَّكُمْ تَتْعَبُونَ وَتَعْضُدُونَ الضُّعَفَاءَ، مُتَذَكِّرِينَ كَلِمَاتِ الرَّبِّ يَسُوعَ أَنَّهُ قَالَ: مَغْبُوطٌ هُوَ الْعَطَاءُ أَكْثَرُ مِنَ الأَخْذِ».} (أع ٢٠: ٣٥). كما أن الشخص الذي يصنع الرحمة في العلاقات الإنسانية يتمتع بقدرة أكبر على بناء علاقات صحية قائمة على التعاطف والثقة. والرحمة تساعد في التعافي من الصدمات تجاه الذات والآخرين وفي تجاوز الجروح النفسية والشعور بالذنب و تعزز المرونة النفسية وتقلل القلق والاكتئاب.
+ لقد اشتهر القديس الأنبا أنطونيوس الكبير بالرحمة علي الناس وحتى بوحوش البرية وكان يعلّم تلاميذه أن الصوم والصلاة بلا رحمة للفقراء لا يُرضيان الله. وقد اتت اليه لبؤه بابنها الضرير يوما وبصلاته فتح الله عينيه وقد اتت اليه اللبؤة بفروة أحد الخراف عرفاناً بالجميل فما كان منه الأ اخذ الفروه واوصاها أن لا تعاود السطو علي خراف الرعاة وعند انتقال الانبا بولا اول السواح أتت الاسود وحفرت القبر الذى دفنه فيه الانبا انطونيوس وكان الأنبا أنطونيوس يشارك ما لديه مع زائريه والفقراء.
+ دعا مار إسحاق السرياني المسيحيين أن تكون قلوبهم "رحيمة مثل قلب الله"، وأن يفيضوا بالشفقة حتى على الخليقة كلها، الإنسان والحيوان معاً. وقد اشتهر القديس الأنبا أبرام بمحبة الفقراء وكان يعطى بسخاء ويساعد المحتاجين وكان الله يعمل معه المعجزات ويسدد كل احتياجاته وكذلك اشتهر المعلم أبراهيم الجوهرى بمحبته للفقراء والعطف عليهم.
+ الرحمة ممارسة يومية فيها نغفر للمسيئين إلينا. ونشارك المحتاجين بما لدينا. ونُظهر للجميع التقدير والتشجيع والعطف باقوالنا وأفعالنا. ونعيش بقلوب منفتحة على كل إنسان باعتباره صورة الله. الرحمة هي انعكاس لرحمة الله علينا، بالرحمة نختبر فرح الإنجيل ونُعلن ملكوت الله وسط عالم قاسٍ. فالرحمة قوة شافية للنفس والمجتمع، وجسر يصل الإنسان بالله وبالآخرين.
القمص أفرايم الأنبا بيشوى
المراجع
• الكتاب المقدس بعهديه
• يوحنا ذهبي الفم، العظات على إنجيل متى.
• أغسطينوس، المدينة الفاضلة.
• باسيليوس الكبير، عن الغنى والرحمة.
• إسحق السرياني، المقالات الروحية.
• Neff, K. (2003). Self-Compassion: An Alternative Conceptualization of a Healthy Attitude Toward Oneself. Self and Identity, 2(2).
• Henri Nouwen, Compassion: A Reflection on the Christian Life.