المحبة أعظم الفضائل الروحية التي تُشكل جوهر الحياة المسيحية، والمحبة صفة جوهرية في الله { اَللهُ مَحَبَّةٌ، وَمَنْ يَثْبُتْ فِي الْمَحَبَّةِ، يَثْبُتْ فِي اللهِ وَاللهُ فِيهِ. } (١ يو ٤: ١٦). المحبة ليست مجرد عاطفة أو شعور إنساني، بل هي عطية إلهية تُسكب في القلب بالروح القدس في قلوب المؤمنين (رو 5: 5). ويعبر عنها ليس بالكلام أو اللسان فقط بل بالعمل والحق والعطاء والتشجيع والاحترام وقد رفعها الكتاب المقدس فوق كل الفضائل، إذ قال القديس بولس الرسول { أما الآن فيثبت الإيمان والرجاء والمحبة، هذه الثلاثة، ولكن أعظمهن المحبة}(1كو 13: 13). ومن خلال فكر آباء الكنيسة وتعاليم علم النفس، يمكننا أن نفهم عمق هذه الفضيلة ودورها في حياة الإنسان الروحية والنفسية.
أولاً: المحبة في الكتاب المقدس وفكر الاباء
يوصي الله سفر التثنية: { فَتُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ كُلِّ قُوَّتِكَ} (تث 6: 5). وقد أكد علي ذلك السيد المسيح عندما سأله أحد الكتبة عن أعظم الوصايا { فَأَجَابَهُ يَسُوعُ: «إِنَّ أَوَّلَ كُلِّ الْوَصَايَا هِيَ: اسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ. الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ. وَتُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ. هذِهِ هِيَ الْوَصِيَّةُ الأُولَى. وَثَانِيَةٌ مِثْلُهَا هِيَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ. لَيْسَ وَصِيَّةٌ أُخْرَى أَعْظَمَ مِنْ هَاتَيْنِ. }(مرقس ١٢: ٢٩-٣١). وتمتد المحبة إلى القريب والغريب وقد جعل السيد المسيح المحبة كعلامة للتلمذة الحقيقية { بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي إن كان لكم حب بعضًا لبعض}(يو 13: 35).
+ المحبة المسيحية تشمل وتحتوى الكل حتى للأعداء وتجعلنا نتشبه بابينا السماوى { سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ، لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى الأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ.}(مت ٥: ٤٣-٤٥). ويصف القديس بولس الرسول المحبة كطريق أفضل من جميع المواهب: (1كو 13).
+ أكد القديس أغسطينوس أن المحبة هي جوهر الناموس: «أحبب وافعل ما تشاء»، بمعنى أن المحبة الحقيقية هي المبدأ الذي يوجّه كل عمل. والقديس أثناسيوس الرسولي يشدد على أن التجسد هو أعظم إعلان للمحبة، إذ «الله صار إنسانًا لكي يصير الإنسان إلهيًا».
+ أما القديس يوحنا الذهبي الفم فيرى أن المحبة تتجاوز العطاء المادي لتصل إلى البذل الكامل: «من يحب لا يكتفي بأن يعطي من ماله، بل يعطي نفسه».
أما القديس مقاريوس الكبير فقد أوضح أن المحبة ثمرة الروح القدس، وأن النفس التي امتلأت بالمحبة ترى الجميع كإخوة بلا تفرقة.
ثانياً: المحبة في علم النفس
علم النفس الحديث تناول المحبة باعتبارها حاجة أساسية للنفس الإنسانية، وشرطًا للنمو الصحي فيرى أبراهام ماسلو (هرم الاحتياجات الإنسانية) أن "الحب والانتماء" في المرتبة الثالثة من احتياجات الإنسان بعد الاحتياجات الفيزيولوجية والأمان.
واعتبر إريك فروم أن المحبة فن وممارسة، تقوم على العطاء والاحترام والمسؤولية والمعرفة. كما شدد أن المحبة الحقيقية تنبع من النضج النفسي والقدرة على تجاوز الأنانية.
+ أكد كارل روجرز على أهمية "التقبل غير المشروط" كصورة من صور المحبة، التي تساعد الإنسان على النمو والشفاء. وفي علم النفس الإيجابي (مارتن سليجمان وآخرون). يرى أن المحبة من أعظم الفضائل الإنسانية التي ترفع مستوى السعادة والرضا عن الحياة.
ثالثا اً: تكامل الرؤية الروحية والنفسية
+ إن الكتاب المقدس يضع المحبة كوصية إلهية وفضيلة سماوية. وابرز آباء الكنيسة المحبة كطريق الخلاص والاتحاد والشركة مع الله. وأثبت علم النفس لنا أن المحبة ضرورة للنمو النفسي والاجتماعي. المحبة ليست مجرد واجب ديني أو حاجة إنسانية، بل هي أساس وجود الإنسان في شركة مع الله والآخرين، وشرط لصحته النفسية ونضجه الروحي. وهي فضيلة شاملة تتجاوز المشاعر إلى الالتزام العملي.
+ المحبة هي القوة التي تبني الإنسان والمجتمع والكنيسة. لذلك فالمؤمن مدعو أن يحيا المحبة كحياة يومية في فكره وأعماله { وَنَحْنُ قَدْ عَرَفْنَا وَصَدَّقْنَا الْمَحَبَّةَ الَّتِي ِللهِ فِينَا. اَللهُ مَحَبَّةٌ، وَمَنْ يَثْبُتْ فِي الْمَحَبَّةِ، يَثْبُتْ فِي اللهِ وَاللهُ فِيهِ. }(١ يو٤: ١٦). فالمحبة هى وصية المسيح الأساسية، وعليها تُبنى كل الفضائل. والمحبة المسيحية غريبة عن محبة العالم الذي وُضع في الشرير.. فإسلوب العالم إنه إن قدّم محبة يقدمها مشروطة بمبدأ المعاملة بالمثل، ولا يعرف أن يقابل الشر إلا بشر مثله أو أشد اما المسيحي فيحب الجميع من قلب طاهر وضمير صالح وإيمان بلا رياء { وَأَمَّا غَايَةُ الْوَصِيَّةِ فَهِيَ الْمَحَبَّةُ مِنْ قَلْبٍ طَاهِرٍ، وَضَمِيرٍ صَالِحٍ، وَإِيمَانٍ بِلاَ رِيَاءٍ.} (١ تيم ١: ٥). إن الإنسان الذي يمتلئ بالمحبة الحقيقية من كنز قلبه الصالح يتكلم بالصلاح والبركات. وبينما يئن العالم ويعاني الصراع والقلق والإضطراب، فان الإنسان المحب لله والغير والخير فانه يحيا في محبة وهدوء وسلام مع الله والغير.
القمص أفرايم الأنبا بيشوى
المراجع
• الكتاب المقدس
• القديس أغسطينوس، الاعترافات.
• يوحنا الذهبي الفم، العظات على رسالة كورنثوس الأولى.
• أثناسيوس الرسولي، تجسد الكلمة.
• مقاريوس الكبير، العظات الروحية.
• Abraham Maslow, Motivation and Personality, 1954.
• Erich Fromm, The Art of Loving, 1956.
• Carl Rogers, On Becoming a Person, 1961.
• Martin Seligman, Authentic Happiness, 2002.