+ تتأثر النفس البشرية بكل خبرات الحياة وتختبر الفرح والحزن، القلق والرجاء. ومن الأمور المهمة التي تغذي وتعزى النفس أو الأخرين حياة الشكر والأمتنان لله والغير، مما يريح النفس ويمنحها التوازن الروحي والنفسي ويعكس الشكر إدراك الإنسان لعمل الله المستمر في حياته، فالكتاب المقدس والآباء شدّدوا على أن الشكر ليس مجرد كلمات منطوقة، بل هو حالة قلبية وذهنية وروحية تُغيّر النفس وتوجّهها نحو الله. أما علم النفس الحديث فيؤكد أن الامتنان من أعظم الأمور التي تساعد على الصحة النفسية والرضا في الحياة. فنقدم الشكر والأمتنان لله علي عطاياه او حتى عندما يؤجل أو يبدل أو يعدل لاننا نثق في خيريته ورحمته. نشكر الله في سائر الأحوال علي ما يقدمه لنا من الخير عالمين ان كل الاشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله، فكل شئ يؤول لخيرنا كما قال يوسف الصديق لأخوته { أَنْتُمْ قَصَدْتُمْ لِي شَرًّا، أَمَّا اللهُ فَقَصَدَ بِهِ خَيْرًا، لِكَيْ يَفْعَلَ كَمَا الْيَوْمَ، لِيُحْيِيَ شَعْبًا كَثِيرًا.} (تك ٥٠: ٢٠). علينا أن نقوم بواجباتنا بأمانته ونتكل علي الله ونسلم له حياتنا واثقين في رعايته الأمينة ورحمته الغنية ونعمته القوية ونقدم له الشكر الدائم.
+ النفس بحسب الكتاب المقدس هي مركز الحياة الداخلية للإنسان. يقول سفر التكوين: { وَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلَهُ آدَمَ تُرَابًا مِنَ الأَرْضِ، وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ، فَصَارَ آدَمُ نَفْسًا حَيَّةً} (تك 2: 7).والنفس هي عطية إلهية تجعل الإنسان متميزًا عن بقية الخليقة. وتُعبر النفس عن العواطف والقرارات والاختيارات { تُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ} (مت 22: 37). ولا تكتمل صحة النفس إلا إذا دخلت في علاقة دائمة مع الله المانح للحياة وواهب الرحمة والحكمة والنعمة والمواعيد مما يستدعي تقدم الشكر الدائم لله { اشْكُرُوا فِي كُلِّ شَيْءٍ، لأَنَّ هذِهِ هِيَ مَشِيئَةُ اللهِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ مِنْ جِهَتِكُمْ. } (١ تس ٥: ١٨)
اولاً: الشكر في الفكر الكتابي وفكر الأباء
+ الشكر في الكتاب المقدس ليس رد فعل ظرفي على الخير الظاهر فقط، بل هو موقف دائم للمؤمن لهذا راينا داود النبي يقدم الشكر لله ويعدد نعمه { بَارِكِي يَا نَفْسِي الرَّبَّ، وَكُلُّ مَا فِي بَاطِنِي لِيُبَارِكِ اسْمَهُ الْقُدُّوسَ. بَارِكِي يَا نَفْسِي الرَّبَّ، وَلاَ تَنْسَيْ كُلَّ حَسَنَاتِهِ. الَّذِي يَغْفِرُ جَمِيعَ ذُنُوبِكِ. الَّذِي يَشْفِي كُلَّ أَمْرَاضِكِ. الَّذِي يَفْدِي مِنَ الْحُفْرَةِ حَيَاتَكِ. الَّذِي يُكَلِّلُكِ بِالرَّحْمَةِ وَالرَّأْفَةِ. الَّذِي يُشْبعُ بِالْخَيْرِ عُمْرَكِ، فَيَتَجَدَّدُ مِثْلَ النَّسْرِ شَبَابُكِ.اَلرَّبُّ مُجْرِي الْعَدْلِ وَالْقَضَاءِ لِجَمِيعِ الْمَظْلُومِينَ. }(مز ١٠٣: ١-٦) والقديس بولس يوصينا { لاَ تَهْتَمُّوا بِشَيْءٍ، بَلْ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِالصَّلاَةِ وَالدُّعَاءِ مَعَ الشُّكْرِ، لِتُعْلَمْ طِلْبَاتُكُمْ لَدَى اللهِ. وَسَلاَمُ اللهِ الَّذِي يَفُوقُ كُلَّ عَقْل، يَحْفَظُ قُلُوبَكُمْ وَأَفْكَارَكُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ.} (في ٤: ٦، ٧).
+ الشكر علامة الحياة المملوءة بالروح القدس لكن البعض يرى قدرة الله واحساناته ولكن لا يمجدوه او يشكروه ويعيشوا في الجهل والخطية { لأَنَّ أُمُورَهُ غَيْرَ الْمَنْظُورَةِ تُرىَ مُنْذُ خَلْقِ الْعَالَمِ مُدْرَكَةً بِالْمَصْنُوعَاتِ، قُدْرَتَهُ السَّرْمَدِيَّةَ وَلاَهُوتَهُ، حَتَّى إِنَّهُمْ بِلاَ عُذْرٍ. لأَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا اللهَ لَمْ يُمَجِّدُوهُ أَوْ يَشْكُرُوهُ كَإِلهٍ، بَلْ حَمِقُوا فِي أَفْكَارِهِمْ، وَأَظْلَمَ قَلْبُهُمُ الْغَبِيُّ. وَبَيْنَمَا هُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ حُكَمَاءُ صَارُوا جُهَلاَءَ.} (رو ١: ٢٠-٢٢)
+ ركز الآباء على أن الشكر هو جوهر العبادة فيقول القديس يوحنا ذهبي الفم: «ليس شيء يقيد الشياطين مثل شكر القلب في كل حين» (العظة 19 على أفسس).
والقديس باسيليوس الكبير يقول: «إذا نظرنا إلى عطايا الله التي لا تُحصى، نجد أن أفضل رد فعل هو أن نشكره باستمرار». أما القديس مقاريوس الكبير فيقول «النفس الشاكرة تمتلئ نورًا، لأنها تعرف أن كل شيء هو من الله». ومار اسحاق السرياني يقول " لا موهبة بلا زيادة الأ التي بلا شكر" إن حياة الشكر تجعل النفس منفتحة على النعمة وتتحرر من التذمر واليأس ونكران الجميل. أن عدم الشكر شئ غير مرغوب وحتى الرب يسوع المسيح عندما شفي العشرة البُرْصِ مدح السامري الذي أتي ليقدم له الشكر { وَفِيمَا هُوَ دَاخِلٌ إِلَى قَرْيَةٍ اسْتَقْبَلَهُ عَشَرَةُ رِجَال بُرْصٍ، فَوَقَفُوا مِنْ بَعِيدٍ وَرَفَعوُا صَوْتًا قَائِلِينَ: «يَا يَسُوعُ، يَا مُعَلِّمُ، ارْحَمْنَا!». فَنَظَرَ وَقَالَ لَهُمُ: «اذْهَبُوا وَأَرُوا أَنْفُسَكُمْ لِلْكَهَنَةِ». وَفِيمَا هُمْ مُنْطَلِقُونَ طَهَرُوا. فَوَاحِدٌ مِنْهُمْ لَمَّا رَأَى أَنَّهُ شُفِيَ، رَجَعَ يُمَجِّدُ اللهَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ، وَخَرَّ عَلَى وَجْهِهِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ شَاكِرًا لَهُ، وَكَانَ سَامِرِيًّا. فَأجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ: «أَلَيْسَ الْعَشَرَةُ قَدْ طَهَرُوا؟ فَأَيْنَ التِّسْعَةُ؟ أَلَمْ يُوجَدْ مَنْ يَرْجِعُ لِيُعْطِيَ مَجْدًا ِللهِ غَيْرُ هذَا الْغَرِيبِ الْجِنْسِ؟» ثُمَّ قَالَ لَهُ: «قُمْ وَامْضِ، إِيمَانُكَ خَلَّصَكَ».} (لو ١٧: ١٢-١٩). فينبغي لىّ أن اشكر الله علي نعمته ورحمته وعلي وجودكم في حياتي أصدقاء وأحباء وأشكركم علي حسن متابعتكم وتجاوبكم وأصلي لينمو إيمانكم وتذداد محبتكم { يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَشْكُرَ اللهَ كُلَّ حِينٍ مِنْ جِهَتِكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ كَمَا يَحِقُّ، لأَنَّ إِيمَانَكُمْ يَنْمُو كَثِيرًا، وَمَحَبَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ جَمِيعًا بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ تَزْدَادُ} (٢ تس ١: ٣). وهكذا تعلمنا الكنيسة أن نبدأ صلواتنا الصلاة الربية ثم صلاة الشكر لله صانع الخيرات الرحوم. فالشكر لله يعطى فرح للقلب ويمتعنا برحمة الله { حَسَنٌ هُوَ الْحَمْدُ لِلرَّبِّ وَالتَّرَنُّمُ لاسْمِكَ أَيُّهَا الْعَلِيُّ. أَنْ يُخْبَرَ بِرَحْمَتِكَ فِي الْغَدَاةِ، وَأَمَانَتِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ، عَلَى ذَاتِ عَشَرَةِ أَوْتَارٍ وَعَلَى الرَّبَابِ، عَلَى عَزْفِ الْعُودِ. لأَنَّكَ فَرَّحْتَنِي يَا رَبُّ بِصَنَائِعِكَ. بِأَعْمَالِ يَدَيْكَ أَبْتَهِجُ. مَا أَعْظَمَ أَعْمَالَكَ يَا رَبُّ! وَأَعْمَقَ جِدًّا أَفْكَارَكَ} ( مز ٩٢: ١-٥).
ثانياً : المنظور النفسي للشكر
+ علم النفس الإيجابي يرى أن الامتنان (Gratitude) من أهم العوامل التي تزيد الصحة النفسية فقد أظهرت دراسات (Emmons & McCullough, 2003) أن الأشخاص الذين يمارسون كتابة مذكرات الامتنان يشعرون بمستويات أعلى من السعادة والرضا. فالشكر يساعد على تقليل الاكتئاب والقلق، لأنه يغيّر تركيز الإنسان من النقص إلى الامتلاء ومن التذمر الي الرضا ومن النقد الي المدح والتقدير لما يقدمه لهم الله والغير.
+ في العلاج المعرفي السلوكي يُستخدم تدريب الامتنان كأداة لإعادة صياغة للأفكار السلبية وتحويلها للايجابية وبذلك يلتقي الفكر الآبائي مع علم النفس الحديث في التأكيد على قوة الشكر في شفاء النفس وإعطائها الرجاء.
ثالثاً: التكامل بين الشكر والحياة الروحية والنفسية
+ روحياً نجد أن الشكر يقود النفس إلى النمو في الإيمان والاتحاد بالله، ويحوّل التجارب إلى بركات. ونفسياً يمنح الشكر الصحة النفسية والتوازن الداخلي. أما عملياً فنمارس الشكر في الصلاة اليومية، وكتابة بركات الله، والتعبير عن الامتنان للآخرين.
+ النفس البشرية لا تزدهر إلا في جو من الشكر الدائم، حيث تعترف لله بالفضل في كل صغيرة وكبيرة. الشكر يحرر الإنسان من الأنانية والتذمر، ويمنحه قلبًا منفتحًا على النعمة. الكتاب المقدس والآباء وعلم النفس يؤكدوا أن الشكر هو مفتاح الحياة الروحية والنفسية السليمة. { شُكْرًا ِللهِ الَّذِي يُعْطِينَا الْغَلَبَةَ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ. إِذًا يَا إِخْوَتِي الأَحِبَّاءَ، كُونُوا رَاسِخِينَ، غَيْرَ مُتَزَعْزِعِينَ، مُكْثِرِينَ فِي عَمَلِ الرَّبِّ كُلَّ حِينٍ، عَالِمِينَ أَنَّ تَعَبَكُمْ لَيْسَ بَاطِلاً فِي الرَّبِّ.} (١ كو ١٥: ٥٧، ٥٨).
القمص أفرايم الأنبا بيشوى
المراجع
• الكتاب المقدس.
• يوحنا ذهبي الفم، العظات على رسالة أفسس.
• باسيليوس الكبير، العظة عن الشكر.
• مقاريوس الكبير، العظات الروحية.
• Emmons, R. A., & McCullough, M. E. (2003). Counting Blessings Versus Burdens: An Experimental Investigation of Gratitude and Subjective Well-Being in Daily Life. Journal of Personality and Social Psychology, 84(2), 377–389.
• Seligman, M. E. P. (2004). Authentic Happiness: Using the New Positive Psychology to Realize Your Potential for Lasting Fulfillment. Free Press