اولاً مفهوم القناعة والرضا
+ القناعة من الفضائل المسيحية السامية التي تمنح الإنسان سلام القلب وتحرر داخلي من العبودية للماديات أو للرغبات غير المشبعة. والبعض يسيئون فهم القناعة على أنها استسلام أو جمود، بينما نجد الكتاب المقدس والآباء والعلم يوضحون أن القناعة لا تتعارض مع الطموح والسعي للنمو الروحي والإنساني، بل تصحّحه وتضعه في إطار إرادة الله.
+ القناعة في المسيحية تعني الرضا الداخلي بما لدينا مع الإيمان أن الله يهتم بكل صغيرة وكبيرة في حياتنا والاكتفاء لا يعني الكسل أو التواكل، بل يعني التحرر من العبودية للطمع، والعيش في سلام داخلي حتى في وسط الحرمان أو الضيق. ويؤكد الآباء أن القناعة ليست عائقًا للنمو فالقديس يوحنا ذهبي الفم يقول "ليس الغني هو من يملك الكثير، بل من لا يحتاج إلى الكثير." أما القديس أنطونيوس الكبير فيقول "القلب القانع يملك الغنى الذي لا يُسلب." والطموح الحقيقي في المسيحية هو الاجتهاد مع الاتكال على الله، وليس الطموح الأناني أو المبني على المقارنة أو الجشع. فالقناعة هي فضيلة تحرر الإنسان من القلق والجشع وتزرع فيه سلام داخلي لكنها لا تتعارض أبدًا مع السعي للنجاح أو التفوق. بل بالعكس، تعطي الطموح بعدًا نقيًا قائمًا على الاجتهاد والأمانة، لا على الطمع أو التنافس غير الشريف.
ثانياً: القناعة والرضا في الكتاب المقدس وفكر الاباء
+ القناعة هى عطية إلهية واقتناع داخلي يقول الرسول بولس: { لأني تعلمت أن أكون مكتفياً بما أنا فيه" (في 4: 11). فالقناعة ليست ضعفاً بل خبرة روحية تُكتسب بالتدريب والإيمان. والقناعة تحررنا من محبة المال {لتكن سيرتكم خالية من محبة المال. كونوا مكتفين بما عندكم لأَنَّهُ قَالَ: «لاَ أُهْمِلُكَ وَلاَ أَتْرُكُكَ»} (عب 13: 5). هنا يربط الوحي بين الرضا والثقة في عناية الله.
+ القناعة لا تعني السلبية بل هى وضع الثقة في الله والحصول علي الأمان منه، لقد طلب سليمان الحكيم في صلاته: { اِثْنَتَيْنِ سَأَلْتُ مِنْكَ، فَلاَ تَمْنَعْهُمَا عَنِّي قَبْلَ أَنْ أَمُوتَ: أَبْعِدْ عَنِّي الْبَاطِلَ وَالْكَذِبَ. لاَ تُعْطِنِي فَقْرًا وَلاَ غِنًى. أَطْعِمْنِي خُبْزَ فَرِيضَتِي، لِئَلاَّ أَشْبَعَ وَأَكْفُرَ وَأَقُولَ: «مَنْ هُوَ الرَّبُّ؟» أَوْ لِئَلاَّ أَفْتَقِرَ وَأَسْرِقَ وَأَتَّخِذَ اسْمَ إِلهِي بَاطِلاً. }(ام ٣٠: ٧-٩). أنه طلب حياة متزنة بعيدة عن الإفراط أو النقص.
+ القناعة في فكر الآباء
• يرى القديس يوحنا الذهبي الفم إن القناعة ليست في امتلاك الكثير، بل في الاستغناء عن الاحتياج إلى المزيد.
• وأوضح القديس أغسطينوس أن القلوب لن تجد راحة إلا في الله، والقناعة تنبع من الامتلاء به لا من الفراغ.
• وقد عاش الأنبا أنطونيوس الكبير حياة القناعة في أقصى صورها في البرية، ومع ذلك كان قائد روحي مؤثراً ومعلماً لأجيال، ما يثبت أن القناعة لا تعني الانعزال او غياب التأثير أو ضعف الرسالة.
ثالثاً: القناعة وعلم النفس
+ علم النفس الإيجابي يوضح أن الرضا عن الحاضر لا يمنع الطموح بل يحمي من القلق والإحباط. وأبراهام ماسلو في هرمه للاحتياجات يؤكد أن إشباع الحاجات الأساسية يولد شعوراً بالقناعة، لكنه يفتح الطريق نحو تحقيق الذات. اما فيكتور فرانكل مؤسس العلاج بالمعنى والذي عاش خبرة القناعة الداخلية في معسكرات الاعتقال النازية، يؤكد أن الإنسان يستطيع أن يختار موقفه حتى في أقسى الظروف.
+ عدم تعارض القناعة مع النمو الروحي والطموح
القناعة تحفظ الإنسان من الطمع والغيرة، لكنها لا تعني رفض التقدم أو التفوق. فالرسول بولس نفسه، رغم قناعته وظروفه الصعبة، قال: { أسعى نحو الغرض لأجل جعالة دعوة الله العليا في المسيح يسوع} (في 3: 14). القناعة إذاً هي أرضية الطموح الصحيح، إذ تعطي القلب استقراراً داخلياً يسمح بالسعي المتزن نحو الكمال.
رابعاً: أمثلة من حياة رجال الله وأبطال الإنسانية
• القديس يوحنا المعمدان عاش حياة القناعة والرضا في بساطة وزهد وتجرد ومع ذلك كان نبياً عظيماً أعد الطريق أمام الرب ولم يخشى أحد حتى هيرودس الملك وهو الداعى الي التوبة { فَلَمَّا رَأَى كَثِيرِينَ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالصَّدُّوقِيِّينَ يَأْتُونَ إِلَى مَعْمُودِيَّتِهِ، قَالَ لَهُمْ: «يَاأَوْلاَدَ الأَفَاعِي، مَنْ أَرَاكُمْ أَنْ تَهْرُبُوا مِنَ الْغَضَب الآتِي؟ فَاصْنَعُوا أَثْمَارًا تَلِيقُ بِالتَّوْبَةِ. وَلاَ تَفْتَكِرُوا أَنْ تَقُولُوا فِي أَنْفُسِكُمْ: لَنَا إِبْراهِيمُ أَبًا. لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ اللهَ قَادِرٌ أَنْ يُقِيمَ مِنْ هذِهِ الْحِجَارَةِ أَوْلاَدًا لإِبْراهِيمَ. وَالآنَ قَدْ وُضِعَتِ الْفَأْسُ عَلَى أَصْلِ الشَّجَرِ، فَكُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تَصْنَعُ ثَمَرًا جَيِّدًا تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ. أَنَا أُعَمِّدُكُمْ بِمَاءٍ لِلتَّوْبَةِ، وَلكِنِ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي هُوَ أَقْوَى مِنِّي، الَّذِي لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَحْمِلَ حِذَاءَهُ. هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَنَارٍ.} (مت ٣: ٧-١١)
• الرسول بولس: عاش في شبع وجوع، في غنى وفقر، لكنه استمر في الخدمة بلا يأس وفي قوة واخيرا استطاع أن يقول { قَدْ جَاهَدْتُ الْجِهَادَ الْحَسَنَ، أَكْمَلْتُ السَّعْيَ، حَفِظْتُ الإِيمَانَ، وَأَخِيرًا قَدْ وُضِعَ لِي إِكْلِيلُ الْبِرِّ، الَّذِي يَهَبُهُ لِي فِي ذلِكَ الْيَوْمِ، الرَّبُّ الدَّيَّانُ الْعَادِلُ، وَلَيْسَ لِي فَقَطْ، بَلْ لِجَمِيعِ الَّذِينَ يُحِبُّونَ ظُهُورَهُ أَيْضًا. }(٢ تيم ٤: ٧، ٨)
• نيك فيوتتش (Nick Vujicic): وُلد بلا أطراف، لكن بقناعة وإيمان وطموح أصبح متحدثاً دولياً ومصدر إلهام للملايين.
• هيلين كيلر: تحدت الإعاقة من فقد البصر والسمع لكنها درست وألّفت وصارت مثالاً على القناعة الممزوجة بالطموح.
خامساً: ثمار القناعة والرضا
• سلام داخلي وراحة من الاضطراب.
• تحرير من الطمع ومحبة المال.
• تقوية الطموح الروحي والإنساني بشكل متزن.
• إعطاء شهادة عملية للآخرين عن الاكتفاء والشبع والفرح بالمسيح.
+ القناعة ليست سلبية ولا استسلاماً للظروف، بل هي فضيلة مسيحية وآبائية ونفسية تُحرر الإنسان ليحيا الطموح الروحي والإنساني في انسجام مع مشيئة الله. إنها توازن بين الرضا بما هو حاضر والسعي لما هو أفضل في المسيح. رجال الله والقديسون وأبطال الإنسانية أثبتوا أن القناعة لا تعوق النجاح بل تدعمه بالسلام والفرح والثبات في الإيمان.
القمص أفرايم الأنبا بيشوى
المراجع
• الكتاب المقدس (رسالة فيلبي، رسالة العبرانيين، سفر الأمثال).
• يوحنا ذهبي الفم، العظات على إنجيل متى.
• أغسطينوس، الاعترافات.
• الأنبا أنطونيوس، أقوال آباء البرية.
• فيكتور فرانكل، الإنسان يبحث عن معنى.
• أبراهام ماسلو، الدافعية والشخصية.
• C.S. Lewis, Mere Christianity.
• Nick Vujicic, Life Without Limits.
• Helen Keller, The Story of My Life