الوداعة فضيلة روحية تُعبّر عن قلبٍ خاضع لإرادة الله وممتلئ بالسلام الداخلي، بعيد عن العنف والغضب والأنانية. الوداعة تعني اللين والدماثة ورقة القلب والصبر وأحتمال الأخرين وهى حالة قلب يتميز بالاتزان والطمأنينة والوقار، فالشخص الوديع يتميز بالهدوء والحلم وطيبة القلب
أولاً: الوداعة في الكتاب المقدس
يقدم لنا الكتاب المقدس السيد المسيح كمثل أعلي للوداعة والمحبة والتواضع مع الجميع، فكان يجول يصنع خير ويشفى كل مرض وضعف في الشعب وبالوداعة والاقناع والصبر والأحتمال تعامل حتى مع أعدائه والذين كانوا يريدوا ان يصطادوه بكلمة من فمه وعلي الصليب غفر لصالبيه، أنها الوداعة الغالبة التي كان يخبر بها بالحق وعلي اسمه تحقق رجاء الأمم في وداعة وتواضع قلب بعيد عن التعصب أو الخصام كما جاء في النبؤة عن السيد المسيح { «هُوَذَا فَتَايَ الَّذِي اخْتَرْتُهُ، حَبِيبِي الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي. أَضَعُ رُوحِي عَلَيْهِ فَيُخْبِرُ الأُمَمَ بِالْحَقِّ. لاَ يُخَاصِمُ وَلاَ يَصِيحُ، وَلاَ يَسْمَعُ أَحَدٌ فِي الشَّوَارِعِ صَوْتَهُ. قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لاَ يَقْصِفُ، وَفَتِيلَةً مُدَخِّنَةً لاَ يُطْفِئُ، حَتَّى يُخْرِجَ الْحَقَّ إِلَى النُّصْرَةِ. وَعَلَى اسْمِهِ يَكُونُ رَجَاءُ الأُمَمِ».} (مت ١٢: ١٨-٢١). وعلمنا قائلاً { اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ. }(مت ١١: ٢٩)
+ ويصف الكتاب المقدس موسى النبي بأنه { كان حليماً جدًا أكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض} (عد 12: 3). الحِلم هنا هو الوداعة التي تنبع من الثقة بالله. وفي العهد الجديد يوصي المسيح قائلاً { طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض}(مت 5: 5). فالوداعة ليست ضعفًا، بل قوة ممزوجة بالمحبة والتواضع. ويوصينا القديس بولس الرسول بالوداعة { فَالْبَسُوا كَمُخْتَارِي اللهِ الْقِدِّيسِينَ الْمَحْبُوبِينَ أَحْشَاءَ رَأْفَاتٍ، وَلُطْفًا، وَتَوَاضُعًا، وَوَدَاعَةً، وَطُولَ أَنَاةٍ، مُحْتَمِلِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَمُسَامِحِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا إِنْ كَانَ لأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ شَكْوَى. كَمَا غَفَرَ لَكُمُ الْمَسِيحُ هكَذَا أَنْتُمْ أَيْضًا. وَعَلَى جَمِيعِ هذِهِ الْبَسُوا الْمَحَبَّةَ الَّتِي هِيَ رِبَاطُ الْكَمَالِ. }(كو ٣: ١٢-١٤). الوداعة هي ثمرة من ثمار الروح القدس (غلا 5: 23) وهي مرتبطة بالتواضع وضبط النفس.
ثانياً: الوداعة في علم النفس
من منظور نفسي، الوداعة ترتبط بالاتزان الانفعالي والقدرة على إدارة الغضب. والشخص الوديع لا يكبت مشاعره سلبياً، بل يعبر عنها بهدوء وثقة. والدراسات النفسية ترى أن الوداعة تساعد على خفض التوتر والضغط النفسي، وتزيد القدرة على التفاعل الإيجابي في العلاقات الإنسانية. كما أن علماء النفس الإيجابي يعتبرون الوداعة من سمات الشخصية الناضجة التي تتمتع بالسلام الداخلي والرضا.
ثالثاً: الوداعة في فكر وحياة القديسين
+ القديس الأنبا انطونيوس علم تلاميذه أن الراهب الحقيقي لا يعرف بكثرة صلواته فقط بل بوداعته في التعامل.
+ القديس يوحنا ذهبي الفم: يرى أن الوداعة هي فضيلة تجعل الإنسان شبيهًا بالمسيح الذي {كشاة تساق إلى الذبح}(أش 53: 7).
+ القديس أغسطينوس: يؤكد أن الوداعة تنبع من محبة الله وتظهر في الصبر على الآخرين والرحمة بهم.
+ القديس يوحنا السلمي: وصف الوداعة بأنها "صخرة ثابتة تحطم أمواج الغضب". ونرى في سير القديسين الكثيرين الذين اشتهروا بالحلم والوداعة..
+ القديس استفانوس رئيس الشمامسة
راينا وهو يرجم يصلي من أجل راجميه ان يغفر لهم الله خطيتهم { وَأَمَّا هُوَ فَشَخَصَ إِلَى السَّمَاءِ وَهُوَ مُمْتَلِئٌ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ، فَرَأَى مَجْدَ اللهِ، وَيَسُوعَ قَائِمًا عَنْ يَمِينِ اللهِ. فَقَالَ: «هَا أَنَا أَنْظُرُ السَّمَاوَاتِ مَفْتُوحَةً، وَابْنَ الإِنْسَانِ قَائِمًا عَنْ يَمِينِ اللهِ». فَصَاحُوا بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَسَدُّوا آذَانَهُمْ، وَهَجَمُوا عَلَيْهِ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَأَخْرَجُوهُ خَارِجَ الْمَدِينَةِ وَرَجَمُوهُ. وَالشُّهُودُ خَلَعُوا ثِيَابَهُمْ عِنْدَ رِجْلَيْ شَابٍّ يُقَالُ لَهُ شَاوُلُ. فَكَانُوا يَرْجُمُونَ اسْتِفَانُوسَ وَهُوَ يَدْعُو وَيَقُولُ: «أَيُّهَا الرَّبُّ يَسُوعُ اقْبَلْ رُوحِي». ثُمَّ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَصَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: «يَارَبُّ، لاَ تُقِمْ لَهُمْ هذِهِ الْخَطِيَّةَ». وَإِذْ قَالَ هذَا رَقَدَ. }(أع ٧: ٥٥-٦٠)
+ القديس أثناسيوس الرسولي: بالرغم من اضطهاداته العديدة ونفيه المتكرر، واجه مقاوميه بوداعة وقوة روحية.
+ القديس مكاريوس الكبير: حين شتمه أحدهم، ركع وصلى من أجله قائلاً: "باركه يا رب كما باركتني بكلماته". وقد استطاع بوداعته ان يكسب الكثيرين الي الإيمان ويتوب الخطاة ويصيرهم قديسين.
رابعاً: كيف نقتني الوداعة عملياً؟
• التأمل في شخص المسيح فهو عاش الوداعة وعلمها وقال {تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب} (مت 11: 29).
• الصلاة وطلب معونة الروح القدس ليمنحنا ثماره وخاصة الوداعة.
• من صفات الوديع ضبط اللسان كما قال يعقوب الرسول {ليكن كل إنسان مسرعاً في الاستماع، مبطئاً في التكلم، مبطئاً في الغضب}(يع 1: 19).
• ممارسة التواضع فالوداعة ثمرة التواضع، ومن يسلك بروح التواضع يسهل عليه احتمال الآخرين.
• للتدرّب العملي قبول النقد دون غضب، والرد على الإساءة باللطف، والصمت عند الاستفزاز ينمى فينا الوداعة.
• الرفقة الروحية: الاقتداء بالقديسين والعيش وسط جماعة روحية تساعد على النمو في الفضيلة.
خامساً: أهمية الوداعة في حياتنا
• تجعلنا متشبهين بالمسيح الذي {لم يفتح فاه}(أش 53: 7).
• تحفظ السلام الداخلي وتساعد على بناء علاقات قائمة على المحبة.
• قوة روحية تُغلب الشر بالخير.
• وسيلة فعّالة للشهادة للمسيح أمام العالم.
القمص أفرايم الأنبا بيشوى
المراجع
• الكتاب المقدس
• القديس يوحنا ذهبي الفم، عظات على إنجيل متى.
• القديس أغسطينوس، مدينة الله.
• يوحنا السلمي، سلم الفضائل.
• أقوال آباء البرية (بستان الرهبان).
• Martin Seligman, Authentic Happiness (Positive Psychology).
• American Psychological Association, Emotional Regulation and Well-being.