أولاً: مفهوم التلمذة في الكتاب المقدس
التلمذة في الكتاب المقدس ليست مجرد عملية تعليمية ذهنية، بل هي حياة وعلاقة وجودية بين المعلّم والتلميذ، أساسها الطاعة والمحبة والتسليم والاقتداء.
+ في العهد القديم نجد نماذج واضحة للتلمذة فلقد تتلمذ يشوع بن نون لدى لموسى الذي تهذب بكل حكمة المصريين { فَتَهَذَّبَ مُوسَى بِكُلِّ حِكْمَةِ الْمِصْرِيِّينَ، وَكَانَ مُقْتَدِرًا فِي الأَقْوَالِ وَالأَعْمَالِ. }(أع ٧: ٢٢). ثم عاش في البرية اربعين سنة حتى ظهر له الرب وأمره بان يخرج الشعب من مصر ورغم أن موسى اعتذر بانه ليس صاحب كلام بل ثقيل الفم واللسان لكن الله شجعه
{ فَالآنَ اذْهَبْ وَأَنَا أَكُونُ مَعَ فَمِكَ وَأُعَلِّمُكَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ». فَآمَنَ الشَّعْبُ. وَلَمَّا سَمِعُوا أَنَّ الرَّبَّ افْتَقَدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَنَّهُ نَظَرَ مَذَلَّتَهُمْ، خَرُّوا وَسَجَدُوا. }(خر ٤: ١٢، ٣١). وكان الرب يكلم موسى وكان يشوع كتلميذ لموسى لا يبرح من داخل الخيمة { وَيُكَلِّمُ الرَّبُّ مُوسَى وَجْهًا لِوَجْهٍ، كَمَا يُكَلِّمُ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ. وَإِذَا رَجَعَ مُوسَى إِلَى الْمَحَلَّةِ كَانَ خَادِمُهُ يَشُوعُ بْنُ نُونَ الْغُلاَمُ، لاَ يَبْرَحُ مِنْ دَاخِلِ الْخَيْمَةِ. }(خر ٣٣: ١١). ولقد أعد موسى النبي يشوع ليقوم بقيادة الشعب بعد موته. وهكذا تتلمذ أليشع النبي لإيليا النبي، الذي تبعه حتى عبر نهر الأردن ورأى صعوده إلى السماء (2مل 2). ولقد اخذ اليشع من ايليا روح النبوة وعمل المعجزات هذه الأمثلة تُظهر أن التلمذة تقوم على العِشرة اليومية، ونقل الحياة والخبرة، وليست فقط نقل المعرفة.
+ وفي العهد الجديد نرى السيد المسيح له المجد دعا تلاميذه الاثني عشر قائلاً: { اتبعوني فأجعلكم صيادي الناس} (مت 4: 19). فالتلمذة للمسيح هي جوهر الإنجيل: اتباع المسيح، حمل الصليب، السلوك حسب تعاليمه. عاش التلاميذ مع معلمهم الصالح وارسلهم في حياته للكرازة والخدمة وصحح لهم مفاهيمهم في الخدمة { فَدَعَاهُمْ يَسُوعُ وَقَالَ: «أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رُؤَسَاءَ الأُمَمِ يَسُودُونَهُمْ، وَالْعُظَمَاءَ يَتَسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ. فَلاَ يَكُونُ هكَذَا فِيكُمْ. بَلْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِيكُمْ عَظِيمًا فَلْيَكُنْ لَكُمْ خَادِمًا، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِيكُمْ أَوَّلاً فَلْيَكُنْ لَكُمْ عَبْدًا، كَمَا أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ، وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ».} (مت ٢٠: ٢٥-٢٨)
واوصى الرب تلاميذه عند صعوده قائلاً { َاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآب وَالابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ. وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ. وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ». آمِينَ.} (مت ٢٨: ١٩، ٢٠)
+ القديس بولس الرسول يقدّم نموذجاً للتلمذة حين علّم تيموثاوس وغيره كثيرين { ما سمعته مني بشهود كثيرين أودعه أناساً أمناء يكونون أكفاء أن يعلّموا آخرين أيضاً} (2تي 2: 2). فالتلمذة في الكتاب المقدس تقوم على اتباع – طاعة – نقل خبرة – شهادة حيّة – شركة في الحياة.
ثانياً: التلمذة في فكر الآباء
آباء الكنيسة الأوائل شدّدوا على أن التلمذة ليست فقط نقل معرفة عقائدية، بل نقل روح المسيح عبر القدوة والتعلم من خبرات القديسين وحياتهم
• فالقديس أثناسيوس الرسولي عاش التلمذة على يد القديس أنطونيوس الكبير، ونقل لنا سيرته التي صارت نموذجاً للأجيال. يقول: "من يجلس مع القديسين يتعلّم من حياتهم أكثر مما يسمعه من كلماتهم."
• والقديس باسيليوس الكبير الذي وضع نظام الحياة الرهبانية الذي يقوم على التلمذة المتبادلة، حيث يعيش الرهبان معاً في شركة روحية، ويتعلم الصغير من الكبير.
• أما القديس يوحنا الذهبي الفم فيرى أن التلمذة هي السير على خطى السيد المسيح، فيقول: "المعلم الحقيقي ليس هو الذي يملأ الأذهان بالكلمات، بل الذي يغرس في القلب نار الروح."
• ويشدد القديس إيريناوس على "سلسلة التلمذة الرسولية". أي أن الإيمان نُقل من المسيح إلى الرسل، ومن الرسل إلى خلفائهم، حتى وصل إلينا.
ثالثاً: التلمذة وعلم النفس
علم النفس الحديث يؤكد أن التعلّم الاجتماعي يتم عبر التقليد والمحاكاة والقدوة، وهو ما يتطابق مع جوهر التلمذة المسيحية.
• في نظرية البرت باندورا تقوم النظرية علي التعلم بالملاحظة فالإنسان يتعلم من خلال ملاحظة سلوك الآخرين وتقليده، وخاصة من يعتبرهم قدوة أو نماذج إيجابية.
• وفي التحليل النفسي: يرى فرويد وتلاميذه أن المعلّم أو المرشد يُشكّل شخصية التلميذ عبر عملية التقمص.
• علم النفس الإيجابي: يؤكد على أهمية وجود مُرشِد في حياة كل شخص لتحقيق النمو الشخصي والنجاح. وهذا يوضح أن التلمذة ليست فقط إيمانياً، بل ضرورة إنسانية ونفسية للنمو.
رابعاً: ثمار التلمذة في حياتنا
• التلمذة تساعد علي النمو الروحي الإنسان الذي يتغيّر تدريجياً ليصير شبيهاً بالمسيح.
• التواضع والطاعة والتلمذة تُعلّم الإنسان أن يقبل الإرشاد والتوجيه فتغرس فيه روح التواضع والطاعة .
• والتلمذة تنقل الإيمان من جيل إلى جيل، وتحفظ وديعة الإيمان.
• التلمذة تُكسب الإنسان اتزاناً داخلياً، لأنها توفر قدوة يُحتذى بها التلميذ مما يقوده للنضج النفسى.
• وتودى التلمذة الي البنيان الكنسي والمجتمعي حيث تُبنى جماعات قوية مترابطة على المحبة والإرشاد.
سادساً: التلمذة في المجتمع المعاصر
• في الكنيسة نجد "مدارس الأحد"، "مجموعات الخدمة"، "التربية الكنسية" تقوم على مبدأ التلمذة المسيحية التى تخلق اجيال من الخدام والقادة.
• في الحياة العملية، التلمذة هي أساس نقل الخبرة بين الأجيال في كل المجالات حتى في الطب، الهندسة، العمارة، الفنون...الخ.
+ إن التلمذة ليست مجرد فكرة تعليمية بل هي مسيرة حياة: تبدأ باتباع المسيح، وتستمر في طاعة الآباء الروحيين وكتاباتهم والقدوة الصالحة، وتنتهي بثمر حياة مقدسة تخلص النفس وتنير الطريق للآخرين.
القمص أفرايم الأنبا بيشوى
المراجع
• الكتاب المقدس (العهدين القديم والجديد).
• أثناسيوس الرسولي، سيرة أنطونيوس.
• القديس يوحنا الذهبي الفم، العظة على إنجيل متى.
• القديس باسيليوس الكبير، القوانين النسكية.
• إيريناوس أسقف ليون، ضد الهرطقات.
• أوسابيوس القيصري، تاريخ الكنيسة.
• Bandura, A., Social Learning Theory.
• Frankl, V., Man’s Search for Meaning.
• Henri Nouwen, Spiritual Direction.
• Eugene Peterson, A Long Obedience in the Same Direction.
✍ صفحة مقالات أبونا إفرايم الأنبا بيشوي