لن أنسى في حياتى صورة هذا الملاك الذى رأته عيناى، فبالفعل رأيت ملاكاً لا إنساناً، كان مستدير الوجه ،واسع العينين، شعر ذقنه طويلاً وأبيضاً كالثلج، هادئ الملامح، ذو ابتسامة طفولية ،وعلى الرغم من إنحناء ظهره لطول قامته وكبر عمره، واستناده على عصا في يديه إلا أن مظهره هذا يمنحه وقاراً وروحانية خاصة يصعب وصفها بالكلمات . وأكثر من كل هذا روحه التى استشعرتها وأحببتها قبلما أسمع صوته، فإذا كنت أقول أن أبونا (أنُسيمُس) شيخ البرية، فأبونا (بيشوى) هذا بالفعل شيخ شيوخ البرية .
هذه الأوصاف كلها لمحتها في أقل من ثوانٍ معدودة ، وأبونا (بيشوى) يخرج بهدوء من باب المغارة وما أن تجاوز أقل من متراً حتى رفع نظره من الأرض ، وأتجهت نظراته الثابتة تحدق فيّ ، فسارت قشعريرة داخلى ، فهرعت على الفور و أنحنيت وأعطيته مطانية وأنا أُقبل يده ..
وبعد ذلك تحرك أبي الشيخ (بيشوى) وهو مستنداً علي عصاه بخطوات بطيئة ، وما أن جلس على (المصطبة) حتى أذن لنا مشيراً بالجلوس أمامه .
قطع أبونا (أنُسيمُس) هذا الصمت القصير قائلاً :
- أشتقت لك كثيراً يا أبي .
فرد أبونا (بيشوى) بصوته الدافئ الحانى :
- وأنت أيضاً يا بني ، بقي لي شهور لم أراك فيها .
فقال أبونا (أنُسيمُس) بنظرة خجل:
- أنت تعرف يا أبى كم اشتاق لرؤيتك، ولكن الصحة أصبحت الآن ضعيفة لا تعطيني الفرصة للتحرك كثيراً...
ثم استطرد مشيراً الىّ وهو يقول:
- والحقيقة ماشجعني بالأكثر إبني (كيرلس) الذي رأيته يأخذ شبه طريقتي وذات أسئلتى عندما كنت في بداية سنوات رهبنتى، وجئت إلي قدسك منذ حوالى أكثر من أربعين عاماً لأسأل عن المبادئ الأساسية للحياة الرهبانية ...
وأخذ بعض من لحظات الصمت كما لو كان يتذكر شيئاً ما ثم أكمل قائلاً :
- وقدسك أرشدتني إرشادات مازلتُ إلى هذه اللحظة أتذكرها عن ظهر قلب بل و أراعى تنفيذها دائماً ، ولذا أحببت أن أُحضر إبنى (كيرلس) حتى يسمع من قدسك روح هذا الكلام وليس معناه فقط.
ثم نظر أبونا (أنُسيمُس) إلىّ وهو يربت على كتفى قائلاً :
- أبونا (كيرلس) مشتاق لمعرفة الطريق الحقيقى للحياة الرهبانية، فهى الطريق الملوكى للوصول لرب المجد .
وما أن أنهى أبونا (أنُسيمُس) حديثه حتى ألتفت إليّ أبونا (بيشوى) ، ونظر إلىّ نظرة متفحصة من أسفل إلى أعلى ، وهو يدير رأســه ناحيـــــتى كمـــــا لو يــــكن يتفحــص ذاتــى مــــن
الداخل دون أن يَنبِسْ بِبِنت شَفَةً .
أحسست بنفسى كما لو يكن العرق يتصبب كينابيع من جسمي كله، حتي قطع ذلك الصمت أبونا (أنُسيمُس) ثانية وهو يقول :
- أخطأنا يا أبونا (بيشوى) ، لقد قطعنا قدسك من خلوتك ، ولكن يعز علىّ كثيراً هذا الأب المبارك (كيرلس) الذى أتى خصيصاً ليسمع كلمة منفعة من قدسك عن الرهبنة .
فحول أبونا (بيشوى) نظره إلىّ ثانية، وأرتسمت على وجهه ابتسامة حانية عريضة موجهه لىّ .....
وسمعت لأول مرة صوته موجهاً لى بنفس الابتسامة قائلاً:
- أبونا (كيرلس) هذا بركة كبيرة يا أبونا (أنُسيمُس).
كانت تلك الجملة القصيرة بهذه الابتسامة الروحانية مشجعة و كفيلة لىّ تماماً ، كى أزيل كل أضطراب ورهبة ، بل أعطتنى بالأكثر ثقة وثبات كافيين للتركيز فيما أريد أن أخذه في جعبتى من معلومات من ذلك القديس ، كى تكون بالنسبة لى نبراساً في طريق الرهبنة العميق .
فأسرعت على الفور لأقبل يد أبونا (بيشوى) ثانية وأنا أقول :
- أنا في شدة الفرح يا أبى كى أراك اليوم .
ثم عدّل أبونا (بيشوى) من جلسته قليلاً وهو يقول :
- أنك تبحث وراء الهدف الذي نبحث عنه جميعاً يا بنى ، فالحياة الرهبانية كالبئر مياهها عذبة ولكنها عميقة ، لذا نحتاج الكثير من الوقت والكثير من الجهاد والكثير من أقتناء الفضائل للوصول لغايتها .
فرددت على الفور قائلاً :
- بالفعل يا أبي وإننى بحاجة ماسة لأن أعيش هذه الحياة بشكل صحيح ، فقد قرأت كثيراً في كتب رهبانية وسمعت من أباء شيوخ كثيرين عن مبادئ عميقة في الحياة الرهبانية ، ولكن مازالت بعض من هذه المبادئ ينتابنى فيها السجس في بعض الأمور.
قاطعنى أبونا (أنُسيمُس) وهو يقول لى هامساً :
- حاول أن تقترب قليلاً من أبونا (بيشوى) لأن قدرته علي السمع قد قلت مع كبر عمره .
فبدأت أكرر تلك الجمل مرة أخرى حتي سمعها أبونا (بيشوى) جيداً بكل لطف وتركيز...
وإن لم أبالغ فقد أحسست أننى أثناء جلستى معه ، أحسست كما لو كنا بمفردنا وليس معنا ثالثاً أو رابعاً أو غيره.
وأكملت حديثى لأبونا (بيشوى) قائلاً :
- .... وعلى سبيل المثيل موقف حدث معي فى مكان خدمتى داخل عيادة الدير، والذى دفعنى لمعرفة تساؤلات دارت في ذهنى عن بعض المبادئ الرهبانية، فقد كان هذا الموقف كالفتيل الذي حرك أمامي نار الشوق ناحية المعرفة العميقة لهذه الحياة الملائكية .
فرد علىّ أبونا (بيشوى) باهتمام قائلاً :
- وماهو هذا الموقف يابنى؟
فأخذت أسرد وبكل التفاصيل لأبونا (بيشوى) قصة والد الطفل المريض بالقلب، وفيما يبدو أننى كنت بارعاً في سرد الموقف ، لأننى وجدت ملامح أبونا (بيشوى) تتغير كلما أنتقلت لأقول تفصيلة أخرى ، فبدى على ملامح وجهه كما لو كان حاضراً معنا الموقف في عيادة الدير.
ثم أكملت حديثى ، وفى النهاية قلت بنبرة تحمل الاقتناع :
- ... والحقيقة يا أبى (بيشوى) إنها ليست المرة الأولى التي أرى فيها أمامي هذا الموقف ، ولكن ما شتت فكرى أنني لأول مرة أفكر في موضوع القنية أو الفقر الاختياري فى الحياة الديرية وبين احتياجات الناس الخارجية - والتي قد نمتلك نحن ما لا يمتلكوه هم - حتى وإن كان الشئ بسيطاً ، لذا أصبح ما أصبوا إليه فقط هو معرفة المعني الحقيقي والعميق للفقر الاختياري .
فعندما سمع أبونا (بيشوى) مقدمتي هذه للمرة الثانية بدأت أسمع صوته الدافئ الروحانى يقول لى :
- هناك ورقة سأعطيها إليك ، تحكي عن أسس الحياة الرهبانية التي ينبغي مراعاتها .... ستفيدك كثيراً ....
ثم استطرد قائلاً:
- أول مبدأ يجب أن تقتنيه في هذه الحياة الملوكية ...
أعتدلت في جلستى أكثر ، و شخصت عيناي نحوه، وجمعت كل طاقات تركيزى وأنا أسمعه يقول :
- لابد أن يكون لك علاقة شخصية قوية مع السيد المسيح ، وهذه العلاقة ستبنى على سماع وصاياه ، وستسمع وصاياه داخل الكتاب المقدس ... لذلك ففي البداية أوصيك أن تكون مدة قراءتك في الكتاب المقدس ثلاث ساعات على الأقل يومياً ..
أتسعت عينى متعجباً وأنا أقول :
- كيف لى هذا يا أبى ؟!. والعمل في بداية
الحياة الرهبانية يكون كثيفاً، ونكمّل قانوننا الرهبانى بالكاد !!!
فابتسم ابتسامة طفولية لا أنساها ثم قال :
- سأقص عليك موقفاً قصيراً ستعرف من خلاله إجابة سؤالك ... هذا الموقف حدث مع سبعة رهبان تم رهبنتهم في هذا الدير منذ عامين، وعندما ترهبوا أتوا إلىّ سائلين كلمة منفعة ، فقلت لهم عن لزوم قراءة الكتاب المقدس علي الأقل ثلاث ساعات فى اليوم ، فمضى السبعة رهبان بعد أن سمعوا هذا الكلام .... وبعد أسبوع عاد إلىّ واحد فقط منهم قائلاً : يا أبى أنى أجد أن ثلاث ساعات في الكتاب المقدس غير كافية...
حينما سمعت هذا الموقف أدركت أن أبونا (بيشوى) لا يرد بإجابات مباشرة ، لكنه يتخذ السيد المسيح كمثال له ، عندما كان يُسأل سؤالاً يعطى مثلاً ، لكىى تتأمل أنت فيه وتخرج الإجابة من خلال كلماته أو أمثاله..
لذا أدركت إنه يبغى أن يقول : من يريد أن يفعل شيئاً حتماً سيفعله حتى لو على حساب راحته أو غيرها ، فوعدته بأن أحاول أن أجعل من عدد ساعات قراءاتي في الكتاب المقدس مثل هذه الساعات ...
ولكننى قاطعته للحظة وقلت له :
- وماذا عن القانون الرهبانى يا أبي، وتحديداً صلوات مزامير الإجبية ؟
فرد علىّ بنبرة حاسمة قائلاً :
- في البداية لنتفق أن ندعو القانون الرهبانى باسم آخر وهو الواجب الرهبانى ... لإنه ليس قانوناً إجبارياً بقدر ما هو واجب محبة على كل راهب كرز حياته لأجل المسيح ، الذى قبله ليكون جندياً صالحاً في جيشه.
ثم أكمل حديثه لىّ قائلاً :
- أعمق الصلوات هي صلوات الإجبية لأن مادتها الأساسية هي المزامير ، ولذا لابد أن تصليها بكل قلب وكل فكر وكل إيمان . وأعكف أن تنهى واجب الإجبية يومياً بأكمله ... وإن دعتك الشدة وكان وقتك محدوداً بسبب عملك داخل الدير، ولم تستطع مثلاً أن تصلى صلاة باكر في موعدها ، فلا خطأ في أن تبدأها حتى وإن كان في منتصف الليل ، وأنت تخاطب الله قائلاً : لك الليل ولك النهار .
ثم وجدت نظراته تتغير بروحانيه وهو يقول:
- المهم أن تُنهى كل واجب مزاميرك ولا تترك مزموراً واحداً ... فصلاة الإجبية هي الحل لمواجهة الأفكار المتعبة والحروبات الشيطانية للراهب...
ثم لمحته وهو ينظر إلى السماء كما لو يكن قد رأى شيئاً وهو يقول :
- لكننى سأقول لك شيئاً آخر ... قد يكون لديك عدد من المزامير وقد تصل مثلاً في صلاة باكر إلى المزمور الرابع فيها، وتأتى إلى آية داخل المزمور تلمس قلبك وتجعلك تغوص في الأعماق الإلهية ....
ساد الصمت في هذه اللحظة لمدة أكثر من دقيقتين وأحسست أن أبونا (بيشوى) بعيناه الثابتتين نحو السماء ، قد تركنا وهو جالس أمامنا ...
وما لبث أن عاد من رحلته السمائية ليحاول منعى من سؤاله عن سر صمته الدقائق الماضية وهو يقول :
- وتجلس تتأمل في هذه الآية حتي نهاية اليوم ... فهل تقول لي فى هذه الحالة أنك لم تنهى واجبك الرهبانى !!!
كلا بل أنهيته ، وأنهيته بأفضل طريقة...
ثم وجدته يلتفت لى كما لو كان يُعقل قدرتى الروحية بالنسبة لقدراته ثم استطرد قائلاً :
- ولكن يا بني إن لم تشعر هذا الشعور ليس هذا معناه إنك مقصراً .... والرب يعطى بسخاء ولا يُعيّر .
فأمأت برأسي بالموافقة ، ثم أكمل حديثه قائلاً:
- ولابد علي الراهب معرفة اللغة القبطية وإتقانها إتقاناً بارعاً، لأن معظم صلوات الكنيسة الأرثوذكسية القبطية تبني علي اللغة القبطية لذا لها هذه الأهمية الكبيرة ....
فاستأذنت في مقاطعته قائلاً :
- وماذا يا أبى عن اللغة اليونانية؟
فرد علي قائلاً :
- أنظر يابنى ... أن المحبة تبنى ولكن العلم ينفخ ، نحن ندرس اللغة اليونانية لأجل إنها اللغة التى كُتب بها العهد الجديد ، فتوصلنا إلى تفسير الآيات التى قد تكون اللغة العربية فيها غير قادرة على توصيل المعنى الدقيق ... ولهذا إن أردت أن تعرف اللغة اليونانية فتكون فقط لدراسة العهد الجديد ، لا لحصر لغات ولا لتفاخر أو كبرياء...
فابتسمت لهذه الإجابة الجميلة وأقتنع بها قلبى قبل عقلي ثم سألته سؤالاً آخراً قائلاً :
- وماذا عن حياة الوحدة في المغائر ؟
فنظر إلىّ بابتسامة حانية وهو يقول :
- لكل شئ تحت السماء وقت يا بني ، لأنه لابد أن تكتسب فضائل المجمع فى البداية ، قبل أن تفكر في حياة الوحدة .....
فقلت له بصوت خافت :
- بمعنى ماذا يا أبي؟
فلم يسمعنى فاقتربت من إذنه وكررت السؤال مرة أخرى فرد علىّ قائلاً :
- لابد لنا أولاً أن نأخذ فضائل المجمع بمعنى أن يتم الاحتكاك بيننا وبين الأباء الرهبان الآخرين داخل مجمع الدير ، فنحن نقرأ عن الفضائل كثيراً ولكن الأهم أن نحياها على أرض الواقع ولن نحياها إلا بهذا الاحتكاك ...فمثلاً فضيلة الاحتمال لها عظات شتى وأمثال كثيرة ، ومن كتب أو قرأ عنها كثيرون ولكن من يحياها فهم قليلون ، ويظهر هذا عندما يحدث موقف يحتاج إلى هذه الفضيلة ، فنفرز منه الفرقتين .
وأستطرد قائلاً :
- فيكون التدريب العملى المفيد في حياة الراهب هو الاحتكاك والتواجد داخل المجمع قبل التفكير في حياة الوحدة ، لأنك إن لم تستطع احتمال تجارب أخوتك في المجمع ، كيف تستطيع بمفردك احتمال تجارب الشياطين في الوحدة ؟!!..
- فلابــــد مـــن تواجــدك فــــــــترة لا تقــــل عــــــن
عشرة سنوات بين أخوتك في المجمع، والأهم من ذلك إرشاد أب اعترافك، حتى تستطيع أن تترك حياة المجمع وتتجه إلى حياة الوحدة.
- وقد سمعت منك إنك تعمل في الخدمة الطبية داخل الدير ، وهذا قد يساعدك بالأكثر على الاحتكاك والتواجد سريعاً ، لأن خدمتك تهيئ لك الاحتكاك بمعظم الأباء حتى وأن كانوا حابسين أو متوحدين .
وأثناء التحدث عن فضيلة الاحتمال ، أحاط خيالى موقف قد حدث لى منذ شهر تقريباً ، وأحسست داخله بطعم الظلم المُر، فسألت أبونا (بيشوى)على الفور بعد أن أنتابني شعور
بالضيق لتذكر الموقف قائلاً :
- بعد كلام قدسك عن فضيلة الاحتمال لى سؤال يا أبى ، ماذا لو أنك مرة ظلمك أحد في ............
بتر أبونا (بيشوى) عبارتى بشكل سريع وغيّر أحساسي على النقيض، لينتابني من إجابته ضحك بشكل متواصل لمدة أكثر من دقيقة، عندما وجدته يقاطعنى بابتسامة بعد أن سمع سؤالى عن الظلم، وهو يشير مستنكراً بأصبع واحد وهو يقول :
- أنت ظُلمت (مرة واحدة فقط) !!!!
فعلمت أن هذه هى إجابته، وأن من معانى الرهبنة تحمل الظلم أو الصبر على الظلم كما يقول بستان الرهبان ، فالرهبنة احتمال ، وإن لم تُظلم وتحتمل ،فأنت لم تترهّب بعد.
ثم شكرت أبونا (بيشوى) قائلاً :
- أننى أخذت من قدسكم اليوم أكثر من مبدأ رهبانى في هذه الجلسة الروحية ولكن ماذا عن الموقف الذى بدأت حديثى به ، والذى حدث معى فى مكان خدمتى داخل العيادة....
ثم ارتسمت ظلال الخجل على وجهى وأنا أقول :
- الحقيقة يا أبي هذا الموقف حرك فيّ فكرة الفقر الاختياري ومعناه ...فعلى سبيل المثال ، من نعم الله علىّ إننى أحب الجلوس فى القلاية لفترات، بهدف القراءة ولإتمام قانونى ولعمل بعض الأبحاث وغيرها .... وجلستى داخل القلاية جعلتنى أحتاج بعض الأوقات لكى أملئ جوفى من أى شيء، فهذا جعلنى أفكر فى امتلاك ملعقة، والملعقة أحتجت بعدها لطبق، والطبق جعلنى أفكر فى حلة صغيرة، والحلة الصغيرة جعلتنى احتاج موقد وهكذا ....
فوجدت أن الشئ أحضر الآخر، وأصبح لدىّ أشياء استخدمها ، بعض الناس الفقراء و البسطاء لا يمتلكونها .....
ثم أكملت حديثي بلهجة تحمل الأهمية قائلاً :
- فبكل صراحة يا أبي أنتابنى السجس بأننى لا أنفذ نذرى و عهدى بالفقر الاختياري حينما سلكت طريق الرهبنة ...
- فماذا عن هذا يا أبى؟
قطع أبونا (أُنسيمُس) الحديث مستأذناً أن يذهب إلى عم (مرزوق) السائق ، الذي يشير إليه من بعيد ، فتحرك وتركنى مع أبونا (بيشوى) بمفردنا مما أعطانى مسئولية أكثر للتركيز و الاستفادة من هذا القديس ..
وبعد ذلك سألنى أبونا (بيشوى) باسماً وهو يقول :
- أنت تمتلك طبقاً ؟؟
فقلت له على الفور :
- نعم أمتلك .
فرد بلهجة حانية :
- وأنا أيضاً أمتلك مثلك ... ولكن هذا غير كافٍ .. أمتلك أثنين .
ثم استطردت سائلاً :
- هل تمتلك موقداً ؟؟
فرددت ثانية قائلاً :
- نعم أمتلك .
أكمل أبونا (بيشوى) حديثه وهو محتفظاً بابتسامته الجميلة قائلاً :
- وأنا أيضاً أمتلك مثلك...
- لكننى سأسألك سؤالاً .... الأشياء الموجودة في قلايتك هل أنت من تمتلكها أم القلاية ؟؟؟
ففهمت ما يصبو إليه فقلت وبكل ثقة:
- أنا لا أمتلكها بل القلاية ،لأن الراهب لا يرث ولا يورث .
فأكمل أبى قائلاً :
- إن امتلاك الأشياء لا يهم .... المهم أن الأشياء لا تمتلكك .... بمعنى إنك لا تحزن لترك أو فقد أو إعطاء الشئ .. إنما الشئ لزوم الاستخدام فقط..
ثم أكمل حديثه بلهجة تحمل التأكيد قائلاً :
- ولكن ما أقوله لك ... لا تبالغ فى إحضار الشئ ذاته، بمعنى إذا كنت تريد أن تمتلك أطباقاً، أمتلكها ولكن لا يكون بحثك عن أغلى أنواع الأطباق وأفضلها علي الاطلاق وما إلى ذلك... وإنما ما يفى بالغرض لأجل إتمام الحاجة ...
- هذا هو الفقر الاختيارى.
فبترت عبارته قائلاً :
- فى كل شئ يا أبي حتى وإن كان مكتباً ، كرسياً ، مروحة أو غيره .
فرد أبونا (بيشوي) على الفور قائلاً :
- نعم .... كل الأشياء يابنى، ولكن الضرورية فقط والتي تهدف في النهاية للنمو الروحى ، المهم أنك تمتلك الشئ لضرورية استخدامه ، ولكن الشئ لا يمتلكك .
- فهى أشياء خاصة بالقلاية ، تمتلكها القلاية ولا تمتلكها أنت .
ثم أكمل حديثه وهو يربت على كتفى قائلاً :
- وبالأخص هذا يليق يا بنى ، مادامت هذه الأشياء تتيح لك بيئة مناسبة لكى تجلس داخل القلاية وقت أكثر وتستفيد منها ،فإن احتجت مروحة مثلاً لتستطيع الجلوس فترات أطول في القلاية ، فلا سجس في امتلاكها . لتحقيق قول الأباء الأولين : أذهب إلى القلاية وهى تعلمك كل شيء.
أرتاح قلبى كثيراً بهذا الكلام الذى كنت أصبو إلي سماعه ، وبدد سجسي....
ولكن ما فاجأنى أننى وجدت أبونا (بيشوى) ولأول مرة يقول لى :
- سأسألك سؤالاً هذه المرة ..
فرددت قائلاً :
- العفو يا أبي .. تفضل .
فقال على الفور :
- وهذا السؤال عن الفقر الاختياري أيضاً .... إذا كان لديك شيئاً واحداً -كطبقاً مثلاً - داخل القلاية ، وأخوك في القلاية المجاورة لا يمتلك ، وجاء يقرع على باب قلايتك يسأل أن يأخذ لقلايته طبقاً فماذا تفعل ؟
فهمت هدف أبونا من هذا السؤال ، ووجدته إلى حد ما سؤالاً صعباً ... ولكننى توقعت إنه سيقول أن المحبة لا تطلب ما لذاتها ، فسأعطيه الطبق ولكنه أجاب إجابة لم أتوقعها مطلقاً قائلاً :
- أقول لك لا تعطيه الشئ ، مادمت لا تمتلك غيره بل تحاول أن توفره له من الخارج، وإن لم تستطع فلا تعطه.
ارتسمت علامات التعجب على وجهى وأنا أقول مستنكراً :
- كيف هذا يا أبى ؟!! فالمحبة لا تطلب ما لذاتها.
فرد على الفور قائلاً :
- أسمع يا بنى... إذا أعطيت أخيك هذا الشئ ثم أحتجت أنت له بعد ساعات أو أيام، سيُدخلك الشيطان في السجس من أن تعود وتمتلكه مرة أخرى ، وبالأخص إذا كنت تحتاج إليه في الوقت الحالي .
- وقد يصيبك روح من الحزن والاضطراب فيستطيع الشيطان الدخول إليك من هذه النقطة للمساس بفضيلة الفقر الاختيارى ويقودك لفعل خطايا أخرى ومحاولة تبريرها لتعويض هذا الشئ.
أقتنع عقلى قبل قلبى بما قاله أبونا ( بيشوى) وأدركت إنه يتكلم عن مراحل داخل الحياة الرهبانية ، فمبدأ مثل الفقر الاختياري مرحلة من مراحله الأولى إنه حينما يطلب منى أحد شيئاً ويكون هذا الشئ هو الوحيد لدي ، ألا أعطيه أياه...
ولكن سيأتى الوقت مع نمو الحياة الروحية أن نعطيه ، كما أشار السيد المسيح في تعاليمه قائلاً : من سألك فأعطه ومن أراد أن يقترض منك لا ترده ( مت 5 : 42 ) . وكذلك الأرملة ذات الفلسين التي طوبها السيد المسيح لأنها أعطت من إعوازها كل معيشتها ( لو 21 : 1- 4 ) ، ولا أنسي في سيرة القديس العظيم الأنبا سرابيون إنه لما وجد عرياناً ، وكان القديس قد أعطى ثوبه الخاص لآخر ولم يكن لديه سوى إنجيله الخاص ....
باع الإنجيل ليكسي العريان .....
قطعت كل أفكارى كى لا أطيل ، وأيضاً أشكر أبونا ( بيشوى) فقلت :
- لا أعرف ماذا أقول يا أبي !!! .. الرب يعوض قدسك أجراً سمائياً على وقتك وإرشادك وتعبك معى واستقبالك البشوش ، وقدسك كنت الحل لإزالة اضطرابي وحيرتى في كثير من الأمور، وليس موضوع الفقر الاختياري فقط ...
ابتسم أبونا (بيشوى) بأبوبة حانية ثم قال :
- في النهاية يا بني ... أريد أن أقول لك جملة تنقشها على صفحات قلبك ولا تنساها مطلقاً...
فرددت على الفور :
- قل يا أبي ...كُلّى آذان صاغية ...
فقال لى بنظرات ثابتة و نبرة تحمل في طياتها الجدية :
- في بداية حياتك الرهبانية لابد أن تعرف أن الراهب الحقيقي هو ....
هامنوب الفضائل المسيحية .
حدقت عيناي تجاهه وأنا أحاول ترديد ماقاله :
- ها.... هامـــــــ ..... ماذا يا أبي ؟!!!
يتبع الأسبوع القادم الفصل السادس والأخير
✍ صفحة مقالات أبونا ويصا الأنبا بيشوي
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

