- شيخ شيوخ البرية !!!
علي الرغم من تعب وإرهاق اليوم بأكمله في هذا اليوم المزدحم العصيب ، إلا إنه جاء في فكري بل وفى قلبى أيضاً إنه لابد من معرفة المعني العميق للنذر بالفقر الاختياري .
فحينما أتيت إلي الدير علمت أننا ننذر البتولية والطاعة والفقر الاختياري ، وبدأت أسال الله في داخلى أن يرشدنى للمعنى العميق لكل من هذه المبادئ ، وعلى رأسهم في الوقت الراهن الفقر الاختيارى...
فموقف والد الطفل المريض هذا قد يكون من الطبيعي جداً حدوثه بل وتكراره أيضاً، ولكن وجود بعض من تفاصيله في عدم قدرته على شراء بعض من المستلزمات البسيطة-في أيام الألفينيات التي نحياها الآن- يظل موقفاً أضع أمامه علامات استفهام كثيرة في معنى الفقر الاختياري بالنسبة لى!!!
+++
- "أغابى..نقبل أيديك يا أبى (أنُسيمُس) "
نطقت بهذه الكلمات بكل نشوة، وأنا أقُبل يد أبى الموقر (أنُسيمُس) أثناء فتحه باب قلايته لى وهو يقول :
- أبونا (كيرلس)... كم أشتقت لرؤياك.
فرددت بكل لهفة :
- ليس أكثر منى يا أبي .... قد تمنعنى طول ساعات الخدمة أحياناً من رؤية ملاك برّيتنا .
ربت أبونا (أنُسيمُس) على كتفى وهو يحثنى للدخول إلى مضيفة القلاية ، وأسرع يقدم لى مشروباً بكل محبة أبوية ، وأنا أحاول جاهداً ألا أُتعب هذا الشيخ الذى قارب على العقد السابع من عمره في ضيافتى.
ثم دار بيننا حوار قصير كله محبة وارتياح، رأيت أثنائه بعض من الإشاعات و الروشتات الطبية التي حصل عليها ، وبدأت بأسلوب مُبسط أشرح له معنى وفائدة كل إشعة أو تحليل أو دواء قائلاً:
- في النهاية يا أبي (أنُسيمُس) المهم الإلتزام بأخذ الدواء في المواعيد المحددة وعدم تأجيل أو إلغاء جرعة منه ...
وأكملت عبارتى وأنا ابتسم قائلاً:
- وعلى ابن الطاعة تحل البركة .
فرد الأب (أنُسيمُس) بكل وقار و تواضع :
- الرهبنة طاعة ... وأنا لابد أطيع أوامرك.
أخذتنى حمرة الخجل وأطبقت شفتايا وأن أنحنى و أقبل يديه قائلاً :
- العفو يا أبي ... أنا من يطيع هنا .. أنت أبي ومرشدى ...
وفى تلك الأثناء تذكرت موقف والد الطفل المريض، فأنتابني شعور عارم بالجدية وقلت في لهجة تحمل الأهمية :
- هل يمكننى أن أسال سؤال يحيرنى ؟
فرد بايماءه من رأسه بلطف قائلاً :
- أسأل يا بني ما شئت.
فبدأت بتركيز ممزوج بلهفة ، أشرح لأبونا (أنُسيمُس) ما حدث معى بالضبط صباحاً ، وأننى استشعرت السجس مما قد يتواجد في قلايتى ، والذى قد يتعارض مع مبدأ الفقر الاختيارى الذى نذرته منذ أن دخلت الدير .
بدت علامات الأهمية والتركيز تتشكل على وجه أبي (أنُسيمُس)منذ تفوهت بأول كلمة، وفى نهاية كلامى قلت :
- وهذا كل شيء يا أبي .... وكلى رجاء أن ترشدنى إلى المعنى الحقيقي للفقر الأختياري.
وبعد أن أنتهيت من حديثي ، صمت الأب (أنُسيمُس) لوهلة ثم قال :
- أنت تعيد لى زكريــــــــــــات أكـــثر مـــن أربــــعـين
عاماً قضيتها في الرهبنة بهذا السؤال ...
- فقد سألت نفس ذات السؤال، وتقريباً بنفس تفاصيل موقفك ...
ثم استطرد قائلاً :
- لكنى لن أجيبك عن هذا السؤال ..
بدت ملامح الاستعجاب والدهشة تملأ وجهى فقلت :
- لماذا لا تجاوبنى يا أبي وأنت شيخ من شيوخ الدير، ومن أكبرهم سناً وأكثرهم حكمة ومحبة ؟؟!!!
فأزال دهشتى قائلاً:
- ســــأجــعـــــــــلك تسمع الإجــــابـــة مــــــن نفـــــس
المصدر الذى سمعته أنا منذ أكثر من أربعين عاماً ..... ستسمع الإجابة من مصدرها الأصلى .....
من أبى الروحى .....
أتسعت حدقتا عيناي ، ولم أستطع إخفاء علامات الذهول من كلمة (أبيه الروحى).... وسألت نفسي... إذ كان الأب (أنُسيمُس) قد قارب أو تعدى السبعين عاماً ، فكم يكون عمر أبيه الروحى ؟!!! وإن كان أبونا (أنُسيمُس) شيخاً ، فإن أبيه الروحى سيكون شيخ شيوخ البرية ....
تذكرت كم من مرة حكى عنه، وعن احتضانه له منذ أن كان في المراحل الدراسية الأولى ... فقد كان أبى (أنُسيمُس) يزوره كثيراً في مغارته يلتمس بركته وإرشاده فكيف يكون والد أبى ؟
- ما رأيك يابني ؟؟؟؟
سمعت هذا السؤال من أبونا (أنُسيمُس)، وهو يربت على كتفى ،ففيما يبدو أننى سرحت قليلاً من كثرة ذهولى ، فرددت على الفور قائلاً :
- نعم يا أبي بكل سرور واحتياج ..
واستطردت قائلاً:
- وبكل اشتياق أيضاً لأرى .....
- شيخ شيوخ البرية ........
✍ صفحة مقالات أبونا ويصا الأنبا بيشوي
يتبع الأسبوع القادم الفصل الثالث
+++