ما معنى المسيح الإله يُجرَّب من إبليس (مت 4: 1)؟ وهل كان من الممكن أن المسيح يخطئ كقول الأخوة الأدفنتست؟ وإن كان من المستحيل أن يخطئ، لأنه لا يستطيع أن يخطئ، فكيف تكون التجربة حقيقية؟
تقول "إلن هوايت" نبية السبتيين: " إن يسوع عندما دخل البرية كان مُحاطًا بمجد الآب.. ولكن المجد رحل عنه فتُرِك هو ليصارع التجربة. وكانت التجربة تلح عليه في كل لحظة فانكمشت طبيعته البشرية من الصراع الذي كان ينتظره وظل صائمًا ومصليًا أربعين يومًا. وإذ كان جسمه ضعيفًا وهزيلًا بسبب الجوع، وإذ كان مضنى ومنهوكًا بسبب العذاب النفسي والعقلي.. فكانت تلك الفرصة هيَ فرصة الشيطان السانحة" (430).
كما قال الأدفنتست: " يقول البعض أن المسيح ما كان ممكنًا أن تغلبه التجربة، فلو صح هذا لكان المعنى عدم استطاعته أن يشغل مركز آدم وينال النصرة في حين أن آدم قد سقط، والحق أن يسوع قد لبس إنسانيتنا في كل أخطارها وبذلك كان عرضة للهزيمة أمام التجربة"(431).. " لقد اشترك يسوع في لحم البشرية ودمها بعد سقوطها لذلك صار شبيهًا لأخوته في كل شيء ومجربًا مثلهم.. أما أن المسيح.. لم يرث الميل إلى الخطيئة لذلك لم يقع فيها، فهيَ فكرة مغلوطة تبعد المسيح عنا وتضعه في مركز حيث لا ننال منه نفعًا!!.. نعم لقد ورث السيد المسيح في تجسده ما يرثه جميع أبناء آدم" (432).
ج: أولًا: ما معنى أن المسيح الإله يُجرَّب من إبليس؟.. ومن قال أن إبليس عندما تقدم ليجرب المسيح كان يدرك أنه يقف أمام اللَّه، فإن موضوع التجسُّد وهو يمثل عمق الإتضاع لم يدر بخلد إبليس المتكبر، ولكنه ظن أنه يقف أمام نبي من طراز فريد لم يضبطه مرة واحدة يخطئ، ولذلك تقدم باشتياق شديد ليمتحنه ويجرّبه ويسقطه، مثلما جرَّب آدم الأول وأسقطه في الخطية، وقد سبق الإجابة على هذا التساؤل ضمنًا ضمن السؤال السابق - ثانيًا: كيف يكون المسيح هو اللَّه ويجرؤ إبليس أنه يجرّبه؟ فيُرجى الرجوع إليه.
ثانيًا: هل كان من الممكن أن المسيح يخطئ؟
1ــ بالطبع لم يكن هناك أي احتمال لسقوط السيد المسيح في الخطية، فهو القائل: "رَئِيسَ هذَا الْعَالَمِ يَأْتِي وَلَيْسَ لَهُ فِيَّ شَيْءٌ" (يو 14: 30)، فليس للشيطان ولا للتجربة سلطان على الرب يسوع، ولا تقدر الخطيئة أن تلح عليه لأنها ليس لها موضع فيه، وبالتالي فلم يكن السيد المسيح عرضة للهزيمة من عدو الخير، فهو القدوس الطاهر الذي بلا خطية وحده، لا يوجد أدنى تجاوب ولا أقل تجاذب بين يسوع البار والخطية.
2ــ مجد الآب لم يفارق السيد المسيح، ولم يرحل عنه وقت التجربة، والذين يدعون أن مجد الألوهية قد رحل عن يسوع فهم يفرّقون بين لاهوته وناسوته، وهذا لم ولن يحدث قط، فقط في التجسُّد تخلى المسيح عن إظهار مجد لاهوته، إذ جعل الناسوت حجابًا للاهوت، دون أن يتخلى عن مجد لاهوته، إنما أخفى هذا المجد، بينما مجد اللاهوت كائن فيه: " فَإِنَّهُ فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ اللاَّهُوتِ جَسَدِيًّا" (كو 2: 9).. نعم تعرض السيد المسيح للجوع الشديد لكن طبيعته البشرية لم تنكمش كتصوير إلن هوايت السقيم، لأنه: " مَكْتُوبٌ لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللَّه" (مت 4: 4).. وفي التجربة أيضًا لم يتعرض يسوع للعذاب النفسي والعقلي، لأنهما نتاج الخطية، والمسيح بلا خطية، فكيف يتسرب إليه العذاب النفسي والعقلي كقول ألن هوايت؟!.. أنها لم تدرك عمق الآية: " مِنْ أَجْلِ السُّرُورِ الْمَوْضُـوعِ أَمَامَـهُ احْتَمَلَ الصَّلِيبَ مُسْتَهِينًا بِالْخِزْيِ" (عب 12: 2).
3ــ السيد المسيح لم يرث الخطية الجدية ولم يرث الميل للخطية، ولم تقترب منه الخطية ولم تسكن فيه لحظة واحدة، إذ كيف يكون المسيح هو اللَّه والخطية أو الميول الفاسدة تسكن داخله؟.. هذا الاتهام هو ضد ألوهية المسيح، إما أن يكون السيد المسيح هو اللَّه وبالتالي يستحيل أن يكون للخطية موضع فيه، وهذا هو إيماننا، إما أن تكون الخطية ساكنة فيه وبالتالي يستحيل أن يكون هو اللَّه، وهذه هيَ بدعة البدع وهرطقة الهرطقات، لأن من يريد أن يُنكر ألوهية المسيح كمن يريد أن يخفي نور الشمس بيده.. بل أن غير المؤمنين الذين أنكروا ألوهية المسيح لم يستطيعوا أن ينكروا قداسته المُطلقة، وعجزوا عن أن يمسكوا عليه خطأً واحدًا.
عجبًا.. السيد المسيح له المجد يقول: " رَئِيسَ هذَا الْعَالَمِ يَأْتِي وَلَيْسَ لَهُ فِيَّ شَيْءٌ" (يو 14: 30)، فيجيبه البعض: كلاَّ، لأن الخطية التي زرعها الشيطان في آدم الأول ورثتها أنت أيها المسيح، وكان الميل للخطية يصاحبك.. من يصدق هذا؟!.. وماذا يظن الأدفنتست؟!.. هل يظنون أن خطية الكذب كانت تلح على السيد المسيح فقاومها ولم يكذب؟! وهل يظنون أن المسيح كان يريد أن يشتم ويسُب اليهود الذين ضايقوه واضطهدوه ولكنه ضبط نفسه؟! وهل يظنون أن السيد المسيح كان يحذر من النظر إلى المرأة لئلا يشتهيها؟!!.
عجبًا.. يقول الإنجيل عن السيد المسيح أنه: " قُدُّوسٌ بِلاَ شَرّ وَلاَ دَنَسٍ قَدِ انْفَصَلَ عَنِ الْخُطَاة" (عب 7: 26)، فهو بعيد تمامًا عن أفعال وأفكار وميول ورغبات الإنسان، ثم يأتي البعض ويقولون لو كان هو قدوس بهذه الطريقة، فهو لم يشابهنا في كل شيء، ويتجاهلون قول الإنجيل: " بَلْ مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِلاَ خَطِيَّة" (عب 4: 15).
4ــ قديمًا رفضت الكنيسة الفكر الأريوسي الذي ادعى أنه كان هناك إمكانية للسيد المسيح للاختيار بين الخير والشر، كما رفضت فكر ثيؤدور أسقف موبسويست (معلم نسطور) الذي قال: " الإنسان يسوع وُلِد من مريم نظير بقية الناس بطريقة طبيعية، مع كل الشهوات والنقائص البشرية.. اللَّه الكلمة سبق فرأى أنه سينتصر في حربه مع جميع الشهوات ويتغلَّب عليها، فأراد أن يخلص بواسطته الجنس البشري.. لما دخل الحياة بدأ النضال مع شهوات الجسد والنفس، فمحا الخطية من الجسد واستأصل شهواته، ولأجل هذه الحياة الصالحة استحق الإنسان يسوع التبني للَّه.." (433). والأدفنتست يعيدون نفس الأفكار بأن السيد المسيح ورث كل ما ورثه بني آدم أي الشهوات والنقائص البشرية، . وأن يسوع لبس إنسانيتنا في كل أخطارها فكان عرضة للهزيمة أمام التجربة (راجع إلن هوايت - مشتهى الأجيال ص56، 57، وأيضًا راجع كتابنا: الأدفنتست.. ظلمة الموت ط سنة 2003م).
ثالثًا: إن كان من المستحيل أن المسيح يخطئ، فكيف تكون التجربة حقيقية؟
1ــ التجربة حقيقية لأن السيد المسيح لم يسمح للاهوته بأن يقدم أي مساعدة لناسوته، فهو جاز التجربة كإنسان وليس كإله، فمثلًا عندما صام أربعين يومًا شعر بعده الجوع، وكان له رغبة حقيقية قوية في الطعام، ولكن لأنه وضع في نفسه أن لا يأكل من يد الشيطان، لذلك رفض مشورته الشريرة والتي تبدو في ظاهرها أنها بريئة وصالحة، وظهر الشيطان كأنه يخاف عليه ويطلب خيره ويشاركه في حل مشكلاته ولذلك تجده تارة يقترح عليه أن يحول الحجارة خبزًا يسد به رمق جوعه الشديد، وتارة أخرى يقترح عليه بأن يمتلك قلوب البشر بعمل استعراضي بأن يُلقي بنفسه من علو شاهق وكأنه هابط من السماء، والملائكة تحمله فلا يصاب بأي أذى، وبهذا يجذب قلوب الجميع بدون ألم الخدمة وبعيدًا عن موت الصليب، وتارة ثالثة يقدم له جميع ممالك العالم لكيما يصبح رئيسًا لهذا العالم والرجل الأول فيه مقابل السجود له والاعتراف بأفضاله.. وفي كل مرة كان طلب إبليس يُقابل بالرفض الحاد القاطع من قِبَل الرب يسوع، ومع كل رفض يحقق المسيح نصرًا على عدو الخير.
نعم لقد أتت التجارب على المسيح، ولكن جميعها كانت من الخارج، دون أن تمس الداخل، لأنه لا يوجد أي تجاوب معها، وهذا لا يُلغي حقيقة التجارب، فقد كانت تجارب حقيقية صومه وجوعه الشديد الذي تعرَّض له حقيقة. وجاء في "الكتاب المقدَّس الدراسي": " لم يكن لدى الرب يسوع أي رغبة داخلية أو ميل لإرتكاب الخطيئة بأي وجه من الأوجه (مت 5: 28) سواء بالأفعال أو بالكلمات أو بالرغبة الداخلية (انظر 2 كو 5: 21، عب 7: 26، 1 بط 2: 22).." (434).
2ــ التجارب التي تعرَّض لها السيد المسيح حقيقية، لأنها لم تحدث في الخيال أو في رؤى الليل، ولم تكن تعبيرات عن أفكار داخلية تراوده، إنما ظهر إبليس فعلًا للسيد المسيح.. بأي صورة؟!.. لا ندري، ربما بصورة رجل، أو صورة ملاك نوراني: " وَلاَ عَجَبَ. لأَنَّ الشَّيْطَانَ نَفْسَهُ يُغَيِّرُ شَكْلَهُ إِلَى شِبْهِ مَلاَكِ نُورٍ" (2 كو 11: 14).. وربما يتساءل أحد: من أين جاء متى ولوقا الإنجيليين بالأحاديث التي جرت بين السيد المسيح وإبليس، وهما ولا غيرهما لم يكونا معه على جبل التجربة، بل كان يسوع بمفرده؟!.. وما المانع أن يكون السيد المسيح حكى لتلاميذه ما حدث، وأحاطهم بما كان، ليدركوا حقيقة الحرب الدائرة بين مملكة الظلمة ومملكة النور.
ويقول "دكتور وليم إدي" إن يسوع أُصعد إلى البرية بالروح: " لكي يُجرَّب أي يُمتحَن وهذه كانت غاية إقتياد الروح القدس له وفقًا لإرادة اللَّه الآب. قد تجرَّب المسيح بدلًا منا فإن آدم الأول تجرَّب وسقط وبسقوطه سقط الجنس البشري فاقتضى أن آدم الثاني يُجرَّب لكي يُظهِر استحقاق كونه فاديًا للبشر ويرفعهم من هاوية ذلك السقوط. فالتجربة حدثت حقيقة ولم تكن رؤيا أو تمثيل محاربة داخلية في أفكار المسيح، والأرجح أن ما رآه متى ولوقا من نبأ هذه التجربة نقلاه عن رواية المسيح إياها لتلاميذه" (435).
3ــ كانت التجارب حقيقية، والنصرة التي حققها السيد المسيح لم تكن بفعل لاهوته، إنما استخدم سلاحًا متاحًا للجميع، وهو كلمة اللَّه. وجاء في "الكتاب المقدَّس الدراسي": " التجارب التي اجتازها الرب يسوع كانت حقيقية لا رمزية. لقد تعرَّض للتجارب التي نتعرض نحن لها، إلاَّ أنه لم يخطئ (انظر عب 4: 15).. ورغم كون الرب يسوع ابن اللَّه، فقد هزم الشيطان مستعينًا بسلاح في متناول الجميع: "وَسَيْفَ الرُّوحِ الَّذِي هُوَ كَلِمَةُ اللَّه" (أف 6: 17). لقد تعامل مع التجارب الثلاث مستعينًا بالحق الكتابي (الآيات 4، 7، 10) من كتاب التثنية" (436).
4ــ يقول "وليم مكدونالد": " إن يسوع المسيح هو اللَّه بالذات، وأن اللَّه لا يمكن أن يخطئ أبدًا. والصحيح أيضًا أن يسوع إنسان كامل، ومع ذلك فالقول أن يسوع يمكن أن يخطئ كإنسان وليس كإله قول لا أساس له كتابيًا. وقد كتب كتَّاب العهد الجديد عن طهارة المسيح في مناسبات عديدة، فكتب بولس عن يسوع أنه: " لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً" (2 كو 5: 21)، ويقول بطرس أنه " لم يفعل خطية" (1 بط 2: 22)، ويقول يوحنا: " وَلَيْسَ فِيهِ خَطِيَّةٌ" (1 يو 3: 5). ومن الممكن ليسوع أن يُجرَّب من الخارج مثلنا، فقد قدم له الشيطان عروضًا تتناقض مع مشيئة اللَّه، لكنه على العكس منا، ليس ممكنًا له أن يُجرَّب من الداخل، لأنه لا يمكن للشهوات والأهواء أن تنبع منه. والأكثر من هذا، أنه لم يكن فيه شيء يتجاوب مع إغراءات الشيطان (يو 14: 3).
وبالرغم من عدم إمكانية سقوط المسيح في الخطيئة، فقد كانت التجربة حقيقية تمامًا. كان ممكنًا له أن يواجه الإغراءات المختلفة، لعله يخطئ، لكن كان من المستحيل عليه أن يستسلم معنويًا أو أخلاقيًا. فيسوع لم يستطع أن يعمل سوى ما رأى الآب يعمله فقط ولم يكن القصد من التجربة رؤية هل يمكن ليسوع أن يخطئ، بل لإثبات أنه حتى تحت الضغط الشديد، لم يكن ليعمل سوى ما يتوافق مع الطاعة لكلمة اللَّه" (437).
ولنضرب هنا مثلًا بسيطًا: لو أن طالبًا نجيبًا فهم مادة العلوم المقرَّرة عليه، وأحبها واستوعبها استيعابًا كاملًا، يستطيع أن يجيب على أي تساؤل خاص بالمادة، فهو بهذا بعيد تمامًا عن الرسوب، ولا يوجد أدنى احتمال لرسوبه، ثم تقدم للإمتحان ونجح وحقَّق الدرجة النهائية، فهل يستطيع أحد أن يقول أن هذا الإمتحان غير حقيقي ولا قيمة له؟!.. بالطبع لا، وبالطبع التشبيه مع الفارق لأن هذا الطالب ربما تعرَّض لتعب مفاجئ.. وقد يتساءل أحد: أن اللَّه قادر على كل شيء.. فهل يقدر أن يخطئ؟.. الحقيقة أن الخطية هيَ ضعف وأمر سلبي، واللَّه القوي القادر على كل شيء منزَّه عن الضعف ومن المستحيل أن يتدنى لمستوى الخطية.
من كتاب النقد الكتابي: مدارس النقد والتشكيك والرد عليها (العهد الجديد من الكتاب المقدس) - أ. حلمي القمص يعقوب
_____