قديسةُ التوبة بامتياز في الكنيسة، إذ إنها عاشت العبور الحقيقي الذي يُفترض أن يعيشَه كلُّ مؤمنٍ بالرب.
أي كيف ينتقلَ من مصرَ الأهواء، إلى أرضِ الميعاد!
إنها مريم المصريّة القديسة التي عاشت بالشطارة بين أزقّة وشوارعِ الإسكندريّة.
نقلتها النعمة وبطريقةٍ ما خفيّة لتكتشف أن كلّ ملذّات هذه الحياة لا تُساوي شيئاً.
إذا أدركَ الإنسان فعلاً أنه ماذا ينتفعُ الإنسان لو ربح العالم وخسرَ نفسُه.
مريمُ المصرية قدوةٌ للتائبين، وتحديداً لنعمة الله ورحمتهِ القادرة أن تنتشلَ الإنسان حتى لو غرق في بحر ملذات العالم.
مريم المصرية حوّلت نار الخطيئة التي كانت تُلهبُ فيها كلُّ قاصديها إلى نارٍ إلهية.
أجّجت فيها نار الحبّ الإلهي حتى أضحت خيالاً كما يصفها زوسيماس.
هذا الجسد الذي كانت تُتاجر به أصبح مُغلّفاً بالنعمة.
حتى زوسيماس الكاهن الراهب سجدَ لتلك الهالة التي كانت تُحيط بها.
مريم المصرية، وكما نعلم من خلال سيرتها، لم تنتقل من حالةٍ إلى حالة بقوةٍ سِحرية لا.
بل لكي تصل إلى هذه الهالة من القداسة ذاقت الأمرّين كما نقول في لغتنا.
إذ عاشت أربعين سنة في الصحراء، سبع عشرة منها كانت تتحرّق بنار الشهوة التي كانت تُهاجمها، فالشيطان لم ينفكّ عن محاربتها طيلة هذه الأعوام السبعة عشر.
فكانت تشتاق لرائحة مصر ولعطرِها، لترِفها وخمرِها، ملابسِ الحرير وهي العائشة الآن في حرِّ الصحراء وبردِها القارس، بين الأشواكِ، والرمالِ، والعَطشِ.
صَبرها جعلها تنسى حتى نفسها لأنها استبدلت حُباً بحبّ وناراً بنارٍ أُخرى فأضحت عاشقةً للتوبة عِوضَ عِشقها الأرضي الفاني الزائل.
مريمُ المصرية رأت ضبابية هذه الحياة وفناءَها وأن الإنسان لا يُساوي شيئاً سوى رائحةٍ كريهةٍ يُخفيها القبر وحفنةٍ من تراب.
الإنسان بالنعمة هو ممجّد ومكرّم، وبالتوبة يرتَفع ويُحلّق.
مريمُ المصرية أطفأت سعير النار المتأجج بنار الملذات، واستحقت لقب البارّة مريم المصرية التي تُعطيها الكنيسة لأولئك الذين عاشوا بالبرارة أي بالعفّة والنسك.
سيرتها تُلهمنا أن نصيرَ أبراراً بالتوبة حتى ولو توغّلنا في أتّون التجارب، حتى نصير سكّان المجد الإلهي.
هذه القديسة تُعلّمنا أهمية المعمودية بالدموع الذي هو تجديدٌ لمعموديةٍ كانت بالماء.
مريمُ المصرية أضحت أيقونة حيةً مصوّرةً، وبشكل حِسّي حالَتنا المُزمَعة في المجدِ مع المسيح
صُمتم أم لم تصوموا بعد، إن الكنيسةَ أرادت أن تضعَ أمامنا صورةَ هذه التائبة، عَلّنا نعود إلى يسوع محبوبِنا والمُشتهى الأخير قبل هذا الفصح الآتي.
لِنسارع بالجهادِ والصبر لأن ملكوت الله ليس طعاماً وشراباً بل برٌّ ونسكٌ مع قداسة.
الجهاد بعدُ مفتوح لكي نؤَهَّل للسجود لذلك الصليب المُنتصب في الجلجلةِ وفي وسطِ حياتِنا.
الكنيسة تقول لنا إذا عرفنا سيرة هذه القديسة، أن خطايانا نحن قادرون أن نغسلها بالدموع.
كُلّ واحد منا هو مريم المصرية.
كُلَّنا عائشون بالبذخ والشطارة، وكُلُّ واحدٍ منا بحاجة لرحمةٍ ونعمةٍ، لتوبة صادقة يُقدّمها لله بدموعٍ صادقة.
وإذا عرفنا محبة المسيح لنا لأدَرْنا وجهنا عن آثامِنا إلى وجههِ،
حيث لا يبقى لنا سوى النور البازغ من القبر الذي يمحو كلُّ سوادٍ ناتجٍ إمّا عن خطايانا، أو عن متاعب هذه الدنيا.
لنضرع إلى الله لكي يؤهِّلنا لتوبةٍ صادقةٍ حقّانيةٍ قادرةٍ أن تنتَشِلنا من بحر الخطيئة إلى النعيم.
فبشفاعات القدّيسة مريم المصريّة أللّهم ارحمنا وخلِّصنا. آمين.
المطران افرام كرياكس