الفول المدمس...
كان عم خلة بائع الفول المدمس رجلاً طيباً رحيماً محباً للفقراء ، كما كان إلى جانب ذلك مشهوراً بأن فوله جيد ، فكانت الناس تتزاحم حول عربته كل صباح. وكان فى المنطقة التى يبيع فيها عم خلة (وهى إحدى ضواحي القاهرة) يوجد رجل فقير يدعى جرجس لم يكن له عائل أو إنسان فى الدنيا يعطف عليه ، وكان يوجد بجسمه من العلل ما يمنعه من مزاولة أي عمل منتظم يكسب منه ، فكان عم خلة ينفق عليه كثيراً من ماله الخاص ، ومن طيبة قلب ذلك البائع المحسن قطع على نفسه عهداً ألا يبدأ بيع الفول المدمس إلا بعد أن يملأ لجرجس طبقاً منه بلا مقابل ، وهكذا اعتاد الناس أن يروه يقدم طبق الفول المملوء لجرجس باكر كل يوم قبل أن يبدأ البيع. وحدث ذات صباح أن تأخر جرجس عن موعد حضوره لملء طبقه ، وظل عم خلة في إنتظاره ، ورفض أن يبيع لأي شخص قبل قدومه .. كان يقول : "لقد قطعت على نفسي عهداً مقدسا أمام الله ولا يمكن أن أنقض هذا العهد بأى حال". وظل الناس منتظرين قدوم صاحبنا جرجس دون فائدة وهم يلحون على عم خلة أن يبيع وهو يرفض ، حتى مل كثير منهم الإنتظار وانصرفوا عنه يبحثون عن بائع آخر ، بينما استمر بعضهم واقفاً لأنه لا يرضى عن فول عم خلة بديلاً. وظل ذلك البائع الطيب مترقباً قدوم جرجس حتى رآه آتياً من بعيد ماشياً على مهل وهو يتوكأ على عصاه. لقد كان سبب تأخره أنه أصيب بنزلة معوية حادة زادت جسمه ضعفاً ونحولاً لدرجة أنه كان يعجز عن الوقوف أو المشي إلا وعصاه في يده ، ولم يكن بإمكانه في ذلك اليوم الخروج من حجرته الرطبة المظلمة لولا أن الجوع قرص معدته ولم يجد شخصا يسأل عنه. وعندما اقترب جرجس من عربة الفول ثبت على حافتها طرف عصاه واستند عليها بثقل جسمه ليحفظ إتزانه ، فانقلبت العربة وتدحرج قدر الفول الفخار ووقع وانكسر وتبعثر الفول على الأرض هنا وهناك ....... وتجمع الناس حول العربة المقلوبة ... وتأثر عم خلة حين رأى مورد رزقه قد سكب على الأرض .... وقال له بعض الواقفين : "هذه نتيجة رحمتك وطيبة قلبك يا عم خلة ... رفضت أن تبيع لزبائنك وظللت منتظراً جرجس .. فلما جاء ذلك الرجل المشئوم ... كسر لك القدر وضيع عليك أموالك".!!! وبدأ بعض الواقفين يعنفون جرجس بصوت مرتفع ولكن عم خلة منعهم مسلماً أمره لله ... وفجأة صاح أحد الواقفين !! أنظر يا عم خلة ... وأشار المتكلم إلى القدر المكسور ، فاتجهت الأنظار إلى أسفل ، ويا للعجب ! ويالهول المنظر الذى رآه الجميع .. لقد رأوا ثعباناً كبيراً ميتاً مقطعاً كان داخل القدر !! وصاح عم خلة متهللاً ... وقال بصوت مرتفع : "أشكرك يا رب لأنك رحمتني ولم تشمت بي أعدائي" ، وقال للناس المجتمعين : "إن أحد جيراني يحسدني على رزقي الواسع وإقبال الكثيرين على الشراء منى .. ولا أستبعد أن يكون ذلك الجار الشرير الخبيث قد دبر هذه المكيدة الدنيئة لكى يبعد عني زبائني ويوقعني في مسئولية خطيرة جدثا .. ولكن شكراً لله ... شكغرا لله ... الذي منع وقوع الحادث وصان حياتي وحياة عملائي بطريقة غريبة .. لم تكن تخطر لي على بال". واتجه عم خلة إلى جرجس يحتضنه ويقبله ! ويشكره أيضاً .. فلولا أنه قلب العربة وكسر القدر لتسمم آكلوا الفول ولحدثت الكارثة الكبرى.
وانصرف الناس متعجبين شاكرين لله أفضاله ، وزاد إيمانهم بعم خلة وبفضل الرب عليهم. أما هو فعاد مبتهجاً يقول : "حقاً .. إن من يرحم الفقير فلابد أن ينجيه الله من شر الحاسدين الكارهين" ...