المجد الباطل
كان يعيش في أحد الأديار راهب كثير الكلام، فزجره ذات يوم رئيسه وأمره أن يلزم الصمت ويحيا في الخفاء إلى أن يأمره ثانية بالكلام.
مرّت الأيّام، وأخذ هذا الراهب ينمو في الفضيلة، مجاهداً في حفظ الصمت طاعة للوصيّة. فنظر الربّ إلى جهاده وطاعته، وأسبغ عليه بمواهب جزيلة منها معرفة الأسرار ودواخل الآخرين.
وكان يعيش بالقرب من هذا الدير ناسك مشهور بزهده وتقشّفه، فمرض وأشرف على الموت، فأرسل إلى رئيس الدير، وطلب منه أن يناوله الأسرار المقدّسة كزاد أخير له. فذهب الرئيس واصطحب معه الراهب الصامت.
وفيما هما ذاهبان لقيهما أحد اللصوص باكياً، وجثا عند قدميّ الرئيس يريد أن يعترف معلناً له توبته الصادقة. فأمهله الرئيس إلى أن يعود إلى الدير ليسمعه ويحكم في أمره، وطلب منه أن يرافقه أيضاً إلى الناسك ليستمدّ بركته.
دخل الثلاثة إلى قلاّية الناسك، وعند مناولته كان اللصّ واقفاً برعدة وهو يقول: "طوباك يا قدّيس الله ومجاهده، يا ليت نفسي أنا الخاطئ تكون قد حازت القليل من الفضائل التي حزتها أنت، فصلِّ من أجلي عساني أصل إلى درجة جهادك وفضيلتك" .
وبدلاً من أن يجيبه الناسك بلهجة متواضعة قائلاً: يا أخي، إنّي رجل خاطئ، ولم أدرك بعد إلى الدرجة التي يريدني الله أن أبلغها، فصلّ لأجلي كي أستحقّ المثول أمام الربّ نقيّاً، أو أن يصمت أمام هذا المديح، أجاب بتشامخ، وقد غلبه شيطان المجد الباطل في اللحظات الأخيرة من عمره، "كلّ إنسان يحصد ما قد زرعه، ويلاقي ما قد تعب من أجله". وما إن سمع الراهب الصامت هذا الكلام حتّى بكى بكاء مرّاً، ولكنّه لم يجب بحرف.
وعند وصولهما إلى الدير خلا الرئيس باللصّ، وبعد أن سمع اعترافه، ورأى ينابيع دموعه، أعطاه الكتاب المقدّس لكي يبدأ بمطالعته، كما لقّنه كيفيّة الصلاة بالمسبحة.
عاد اللصّ بعد عدّة أيّام ليطلع الرئيس على حالته، ولكي يتحقّق الرئيس من صدق توبته أمره أن يعترف أمام جميع الرهبان.
وفعلاً، اعترف اللصّ بكلّ جرائمه وأفعاله التي فعلها أمام جميع الإخوة، فلمّا رأى الراهب الصامت هذا تبسمّ ابتسامة عريضة معبّراً عن فرحه الكبير سيّما وقد سمع اللصّ يعِدُ الرئيس وشركة الإخوة أن يمضي بقيّة حياته في الدير بكلّ تواضع وزهد وانسحاق، وفيما هو يعترف بهذا وقع أرضاً ومات، وما إن نظر الراهب هذا حتّى تبسمّ ثانية ولكن من دون أن يتكلّم.
وبعد دفنِ اللصّ التائب أرسل الرئيس يطلب الراهب الصامت، ولمّا مثل أمامه سأله قائلاً:
- لماذا بكيت، يا أخي، عند مناولة الناسك، وضحكت عند موت اللصّ التائب؟
- لقد حزنت حزناً شديداً لرؤيتي هذا الناسك العظيم الذي قضى كلّ حياته يجاهد قد غُلب وهو على فراش الموت مفتخراً متعظّماً على صيامه ونسكه، ورأيت كيف أنّ الملاك الحارس قد ابتعد عنه، وسمعت صوته يقول له: "يا للخسارة لقد أضعت تعبك بتكبّرك وافتخارك".
وضحكت لأنّي رأيت نفس هذا اللصّ التائب تجوز أبواب السماوات من دون مانع يرافقه ملاكه الحارس فرحاً مسروراً بخلاصه، وسمعته يقول له: "لقد ربحت السموات بتواضعك واعترافك، فهيّا لكي تمثل أمام الديّان بنقاوة ودالّة".
† حقّا يا بنيّ إن الاتّضاع هو إكليل الراهب، والتوبة والانسحاق يوصلان بسرعة إلى الملكوت.
أمّا الراهب الصامت، فعندما أراد الرئيس أن يحلّه من صمته قال له: "دعني، يا أبتي القدّيس، أبقى صامتاً، لأنّي بصمتي حزت على نعم سماويّة كثيرة، ورأيت الله في داخلي جليّاً. نعم، يا أبتي، إنّني ما كففت لحظة عن تذكّر القصّة التي قرأتها عن راهب أحضر ابن أخيه الطفل ليربّيه في الدير على الفضيلة بعد أن مات أبواه في حادث مؤلم.
وبالفعل فلقد أنشأ الراهبُ الطفل على كلّ أنواع الفضيلة حتّى فاق الكثيرين من الرهبان بها، وكان عمّه يحسبه قدّيساً وهو لم يتعدَّ بعد الخامسة عشرة من عمره. ولكن، ما إن بلغ هذا الشاب التاسعة عشرة حتّى مرض مرضاً ثقيلاً وانتقل من هذه الدنيا.
حزن الراهب على فقدان ابن أخيه، وبدأ يصلّي بحرارة ليعلم أين مقرّه في الأبديّة، فرآه في حلم الليل موجوداً في مكان مظلم يتعذّب. انذهل الراهب، وأخذ يصلّي ويصوم ويسهر الليالي ليعرف لماذا وصل ابن أخيه إلى هذا المصير مع أنّه كان مكمَّلاً بالفضيلة، ومن حزن قلبه صرخ إلى الربّ قائلاً: "كيف حصل هذا أيّها الإله الرحوم، وكيف هلك هذا الشابّ البتول النامي في التقوى والفضيلة؟
أرجوك يا إلهي أوضح لي الأمر". فجاءه صوت يقول له: "لا تستغرب أيّها الراهب.
إنّ الله يسألك أنت أيضاً: لِمَ لم تعلّم هذا الشابّ التواضع. إنّه بسبب نسكه وزهده حسب نفسه قدّيساً، فعوقب مع المتكبّرين. إن الله يحبّ المتواضعين لا المتكبّرين". فدعني إذاً، يا أبي القدّيس، أمضي بقيّة حياتي بالصمت والتواضع عساني أقف بين يديّ الخالق مبرَّراً.
( إعداد راهبات دير يعقوب الفارسي المقطع )