الإنسان النقي الطاهر تكون أفكاره نقية طاهرة. فما الموقف إذن إن أتته أحيانًا أفكار ليست طاهرة؟
وهنا علينا أن نميز بين حرب الفكر والسقوط بالفكر:
حرب الفكر هي أن يلحّ عليك فكر خاطئ أو فكر شرير، وأنت غير قابل له، وتعمل بكل جهدك وكل قلبك على طرده، ولكنه يبقي بعض الوقت. وبقاؤه ليس بإرادتك، وإنما بضغط الفكر عليك. وفي هذا لا تكون قد أخطأت، بل أن مقاومتك لذلك الفكر تُحسب لك برًا... أما السقوط بالفكر، فهو قبولك للفكر الشرير، واستبقاؤك له، وربما اختراعك صورًا جديدة له...
والسقوط بالفكر قد يبدأ برغبة خاطئة في قلبك، أو بشيء مختزن في عقلك الباطن. أو قد يبدأ بأسباب من الخارج تحاول أن تقاومها أولًا، ثم تستسلم لها وتسقط وتتطور في سقوطك. أو قد تسقط في الفكر الخاطئ إلى لحظات وترضى به، ثم تستيقظ لنفسك وتقاومه، ثم تعود فتسقط.
اعرف أنه على قدر ما تقاوم الفكر الشرير، تأخذ سلطانًا عليه، فيهرب منك ولا يجرؤ على الاستمرار في محاربتك.. وأيضًا على قدر ما تستسلم له، يأخذ هو سلطانًا عليك ويجرؤ على محاربتك.. إذن بيدك دفة الحرب وليس بيد الفكر الذي يجس نبضك وعلى حسب حالتك يحدد موقفه منك... إن الفكر الخاطئ يختبر قلبك من الداخل: هل يوجد فيه ما يشبهه، ومعروف أن شبيه الشيء منجذب إليه... فإن كان قلبك من الداخل أمينًا جدًا، لا يخون خالقه مع الأفكار الشريرة، ولا يفتح لها مدخلًا، ولا يتعامل معها ولا يقبلها، حينئذ تهرب منه الأفكار الشريرة وتخافه الشياطين... أما إن تساهل مع الأفكار، فإنها تجرؤ عليه...
هناك أفكار شريرة تدخل إلى القلب النقي لتساهله معها. وأفكار شريرة تخرج من القلب المنحرف بسبب عدم نقاوته. أي أن هناك أفكار شريرة تأتى من الخارج، وأخرى تأتى من داخل الإنسان. وعمومًا فالأفكار الخاطئة التي تدخل إلى القلب تتحول إلى انفعالات أو شهوات. وإن خضعت لها الإرادة تتحول إلى عمل..
الأفكار التي تأتى من القلب، يكون مصدرها إما رغبات أو شهوات موجودة في القلب. أو أنها تصدر عن أمور كثيرة اختُزنت في العقل الباطن من صور أو أخبار أو أفكار أو قصص. من هذا المخزون في الداخل تخرج الأفكار بسبب أية إثارة. فاحرص إذن على أن يكون المخزون في عقلك الباطن نقيًا.
على أن الأفكار التي تخرج من العقل تكون في العادة أقل قوة من الأفكار الأخرى الخارجة من القلب. وذلك لأن التي تصدر عن القلب تكون ممتزجة بالعاطفة أو بالشهوة، ولهذا تكون أقوى. وهكذا فإن طرد الأفكار الخارجة من العقل يكون أسهل. أما إذا تساهل أحد معها واستبقاها، فقد تنتقل إلى القلب وتنفعل بانفعالاتها فتقوى. لذلك ينبغي على الإنسان أن يحفظ عقله وقلبه، كما يحفظ الخط الواصل بين العقل والقلب، وقد قال سليمان الحكيم "فوق كل تحفُّظ، احفظ قلبك، لأن منه مخارج الحياة".
إن حرب الأفكار إن هاجمتك، وأنت نقي القلب وحار في الروح، تكون حربًا ضعيفة ويمكنك أن تهرب منها. أما إن حوربت بالفكر الشرير، وأنت في حالة فتور روحي، أو فقدت اشتياقك إلى حياة البر، فإنها حينئذ تكون حربًا عنيفة، ويكون الهروب منها صعبًا.
وكما تحفظ عقلك لكيلا يدخله فكر يعكر نقاوتك، يجب أيضًا أن تحفظ حواسك. لأن الحواس هي أبواب للفكر. إذًا احفظ نظرك وسمعك وملامسك وباقي حواسك لأن ما تراه وما تسمعه قد لا تستطيع أن تمنع ذهنك من التفكير فيه ومن الانفعال به... وإنْ دخل إلى سمعك أو بصرك أو فكرك شيء غير لائق، فلا تجعله يتعمق في داخلك، وليكن مروره عابرًا.
إن الأفكار العابرة لا يكون لها تأثير قوي. ولكن إذا تعمّقت، فإنها تترسب في العقل الباطن، وتمد جذورها إلى القلب، وقد تصل إلى مرحلة الانفعال...
ونشكر الله الذي منحنا نعمة النسيان التي نطرد بها الأفكار العابرة وما تجمعه الحواس من عثرات. أما الأفكار التي نُدخلها إلى أعماقنا، فإنها تستقر في عقلنا الباطن، وتتصل بالشعور واللاشعور ولا يكون صرفها سهلًا، وقد تكون سببًا في حرب من الأفكار والظنون والأحلام ومصدرًا للرغبات والانفعالات وبداية لقصص طويلة...
ولعل البعض يسأل: كيف أُقاوم الأفكار التي تضغط علىّ أحيانًا، وتحاول أن تخضعني لأستسلم لها؟
والجواب هو أن هناك طرقًا عديدة: منها أن تشغل ذهنك بفكر آخر يكون أقوى من الفكر الذي يحاربك، فيحل محله. لأن عقلك لا يستطيع أن يفكر في موضوعين في وقت واحد بنفس العمق. لذلك يُشترط في الفكر الجديد الذي تطرد به الفكر الخاطئ، أن يكون عميقًا، كالتفكير في مشكلة عويصة، أو أمر يهمك جدًا... أما الفكر السطحي، فإنه لا يطرد الأفكار المحاربة لك. بل يستمر الفكران معًا. أحدهما في العمق، والآخر كسرحان!
أو يمكن أن تطرد الفكر بالقراءة كطريقة للإحلال. على أن تكون أيضًا قراءة عميقة تجذبك وتستهويك، ولا تترك مجالًا للفكر الذي يتعبك.أو أن تنشغل بأي عمل. وإن استمر الفكر، حاول أن تتحدث مع غيرك في موضوع هام. لأنه لا يمكن أن تتكلم وتفكر في وقت واحد. كذلك يمكنك أن تعرف سبب الفكر، وتتصرف معه إن استطعت.
هناك وسيلة أخرى، وهى الوقاية من هذا الفكر وأمثاله. وذلك بأن تشغل عقلك باستمرار بما هو مفيد. حتى إذا جاء الشيطان ليحاربك بفكر شرير، يجدك مشغولًا عنه وغير متفرغ له، فيتركك ويمضي. أما ترك أبوابك مفتوحة لعدو الخير، فهذا يساعده على اقتحامها. ويقول المثل "عقل الكسلان معمل للشيطان".
المهم أنك لا تعطي مجالًا للفكر الخاطئ أن ينفرد بك، أو أن تنفرد أنت به.