دروس من حياة العذراء
أول شيء يشعل الرغبة في التعلم هو سمو وعظمة المُعلّم. فمن هو أسمى وأعظم من والدة الإله؟ ومن هو أكثر مجداً منها هي التي إختارها "المجد" ذاته؟
ومن هو أكثر عفة من تلك التي أنجبت جسداً دون أن تلوِّث جسدها؟ ماذا أقول عن فضائلها الأخرى؟
تلك التي لم تلوّث عواطفها النقية بأي مكر فاسد، إذ كانت عذراء لا في الجسد فقط بل الذهن أيضاً.
كانت متواضعة القلب، رزينة في حديثها، حكيمة في فكرها، قليلة الكلام، مُجدّة في القراءة، غير واضعة رجاءها على "غير يقينية الغنى" (1 تي 6)
بل على صلوات المساكين، منكبَّة على عملها، متواضعة في حديثها، متعودة على أن تلتمس حكم الله وحده على أفكارها لا إنسان، لا تؤذي أي إنسان، تتمنى الخير للجميع، تقف في حضور الشيوخ، لا تنظر بإزدراء نحو نظراءها، تهرب من الكبرياء، تتبع التعقل، وتحب الفضيلة.
متى آلمت والديها حتى ولو بنظرة واحدة؟ متى تخاصمت مع أقربائها؟ متى أحتقرت المتواضعين؟ متى سخرت من الضعفاء؟ ومتى تحاشت المحتاجين؟ وهي قد تعودت أن تذهب إلى تجماعات الناس التي تمتلئ بالرحمة ولا يهرب منها التواضع.
لم يكن هناك شيء عابس في عينيها، وليس هناك أي وقاحة في كلماتها، ولا أي شيء غير لائق في سلوكها.
لم تكن إيمائاتها جافة، ولا مشيتها متوانية، ولا صوتها فظاً، حتى أن مظهرها الخارجي كان صورة لنفسها الداخلية ودليلاً على إستقامتها.
وماذا يقال أيضاً عن طعامها القليل وخدماتها الوفيرة؟ إذ أن الخدمات تتجاوز الطبيعة، بينما الطعام بالكاد يخدم الطبيعة، ولم يكن هناك فترات تراخي، بل أيام للصوم يوماً بعد آخر.
وعندما ترغب في الأكل، فإن طعامها يكون ما يصل إليها، فتأكل للحفاظ على الحياة لا للتلذذ.
وما يجعلها تنام ليس هو الرغبة بل الضرورة، ومع ذلك حينما يرتاح جسدها، فإن نفسها تكون متيقظة، وكثيراً ما تكرر في نومها ما سبق أن قرأته، أو تكمل ما قد إنقطع بسبب النوم، أو تضع خططاً أو ترتب ما تنوي عمله.
وهي لم تكن معتادة أن تخرج من البيت إلا لكي تذهب إلى الكنيسة، وكانت تذهب مع الوالدين أو الأقرباء. وسواء إن كانت مشغولة بأمورها الخاصة في البيت، أو مُحاطة بالناس في السوق، إلا أنها لم يكن لها مرشد أفضل من نفسها، تستدعي إحترام الآخرين بمشيتها ومحياها، وفي كل خطوة كانت تخطوها كانت تنمو في النعمة.
وبالرغم من أنه قد يكون لدى العذراء أشخاص آخرون لحماية جسدها، إلا أنها هي التي كانت تحرس نفسها وتحافظ على سلوكها.
كان يمكن أن تتعلم أشياء كثيرة من آخرين، لكن تلك التي لها الفضائل كمعلمين كان يجب أن تُعلّم لنفسها، وكل ما كانت تفعله صار درساً يتعلم منه الآخرين.
مريم إنتبهت لكل أحد كما لو أن كثيرين كانوا ينصحونها، وتمّمت كل فضيلة كما لو كانت بالحري تُعلّم بدلاً من أن تتعلّم.
هكذا أخبرنا عنها الإنجيلي، وهكذا وجدها الملاك، وهكذا إختارها الروح القدس.