لنيافة الأنبا رافائيل
"طوبى للبطن الذي حملك والثديين اللذين رضعتهما... بل طوبى للذين يسمعون كلام الله ويحفظونه" (لو 27:11،28).
"طوبى التي آمنت أن يتم ما قيل لها من قبل الرب" (لو 45:1).
طوبى لمريم العظيمة التي "كانت تحفظ جميع هذا الكلام متفكرة به في قلبها" (لو 19:2).
طوبى لمن تكلمت بالروح القدس معلنة "فهوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوبنى" (لو 48:1).
نطوبك يا ذات كل التطويب لأنك بالحقيقة ارتفعت على كل السمائيين وصرت سماء ثانية تحمل القدوس كالشاروبيم وأبهى.
يا للعجب.. الأم الأعجوبة.. الأم والعذراء.. الأم والأمة.. الملكة العبدة كيف لعقلى الصغير أن يستوعب هذه الأعجوبة.
فتاة صغيرة يهودية تحمل في حضنها (يهوه).. إخبرنى يا أمى كيف استوعب الخبر.. وكيف احتملت الخبرة.. من تخافه الملائكة وترتعب أمامه القوات.. من يقف الكهنة أمامه بكل احتشام ويتطهرون عندما يكتبون اسمه.. كيف حملتيه أنت في بطنك وحضنك وكف رضع من لبن ثدييك.
أخبرينى يا عروس المسيح الباهرة كيف كان (يحبو) يسوع.. ومتى تكلم.. وكيف نطق الحروف الأولى.. أخبرينى عن أسرار الملك إذا أنه (شابهنا في كل شيء) وكان مثلنا "يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس" (لو 52:2) ولكنه كان "ينمو ويتقوى بالروح ممتلئًا حكمة وكانت نعمة الله عليه" (لو 40:2).
أحكى يا أم النور عن النور والبهاء الذي كان يحيط بطفلك العجيب.. وخبرينا عن المجد والوقار والرزانة والنعمة المنبعثة من شخصه القدوس طوباك يا مريم لأنك عاينت ما لم تره عين.. وخبرت ما لم يختبره إنسان وصدقت ما يفوق العقل.. وعقلت ما يصيب بالذهول.
إننى أقف من بعيد يحجبنى الزمان السحيق والمكان البعيد... أقف مذهولًا من الأمر نفسه الذي استوعبته أنت وعشته.
قلبى ولسانى وعقلى وحواسى يتيهون.. وقلمى يسبق الكلمات.. ومشاعرى مختلطة ولا أستطيع الكلام أن أرتب العبارات.. لأننى مأخوذ ومشدود بسبب بهائك الكامل يا أم كل طهر واصل البتولية.
فضائل العذراء وإيمانها
لا توجد إمرأة تنبأ عنها الأنبياء وأهتم بها الكتاب مثل مريم ... رموز عديدة عنها فى العهد القديم وكذلك سيرتها وتسبحتها والمعجزات فى العهد الجديد.
وما اكثر التمجيدات والتأملات التى وردت عن العذراء فى كتب الأباء التى تلقبها بها الكنيسة مستوحاة من روح الكتاب.
انها أمنا كلنا وسيدتنا كلنا وفخر جنسنا الملكة القائمة عن يمين الملك العذراء دائمة البتولية المملوءة نعمة القديسة مريم الأم القادرة المعينة الرحيمة أم النور أم الرحمة والخلاص الكرمة الحقانية.هذه هى التى ترفعها الكنيسة فوق مرتبة رؤساء الملائكة فنقول عنها فى تسابيحها وألحانها: علوت يا مريم فوق الشاروبيم وسموت يا مريم فوق السيرافيم.
لم يرد بالكتاب المقدس تاريخ القديسة حنة والقديس يواقيم _ أبوىّ العذراء مريم _ بل حتى تاريخ السيدة العذراء قبل خطبتها ذلك لأن الكتاب المقدس يركزكل اهتمامه على شخصية السيد المسيح وترك باقى الأشياء للتقليد ليدونها ويذكرها للكنيسة المقدسة .
يذكر التقليد انه كان فى بلاد اليهودية رجل اسمه يواقيم ( يهوه يقيم) وزوجته اسمها حَنَة (الحنون) وقد كانا متقدمين فى السن ولم يرزقا بذرية. ولأن بنى إسرائيل كانوا يعيرون من لا ولد له لهذا كانا القديسان حزينيين ومداومين على الصلاة والطلب من الله نهاراًَ وليلاً أن يعطيهما ابناً يخدمه فى بيته كصموئيل. فاستجاب الرب الدعاء فظهر ملاك الرب جبرائيل ليواقيم وبشره بان امرأته حَنَة ستحبل وتلد مولوداً يسر قلبه, كما ظهر جبرائيل الملاك لحَنَة وزف إليها البشرى بأنها ستلد ابنة مباركة تطوبها جميع الأجيال لان منها يكون خلاص آدم وذريته. وقضت حَنَة أيام حملها فى صلوات واصوام الى أن ولدت بنتاً وسمياها مريم (سيدة), وكان ذلك فى يوم أول بشنس. ولما بلغت مريم 3 سنوات قاما والداها بتقديمها للهيكل لتخدم الرب مع بقية العذارى, وظلت تخدم فى الهيكل حتى بلغت الثانية عشر من عمرها, وكان أبواها قد ماتا وعندما بلغت سن الزواج تشاور الكهنة معاً على زواجها فاختار زكريا الكاهن من شيوخ وشبان يهوذا واخذ عصيهم وكتب عل كل واحدة اسم صاحبها ووضعهم داخل الهيكل فصعدت حمامة فوق العصا التى كانت ليوسف النجار ثم استقرت على رأسه فعقد الكهنة خطبتها على يوسف وعاشت فى بيته الذى فى الناصرة.
بشارة الملاك جبرائيل للعذراء:
ظهر جبرائيل الملاك للعذراء مريم وبشرها بميلاد الطفل يسوع ( لو 1: 26-38) وذلك بعد ستة اشهر من ظهوره لزكريا الكاهن وبشارته بميلاد يوحنا المعمدان.
فضائل العذراء:
إذا كانت العذراء قد استطاعت ان تحوى بداخلها الغير المحوى فلقد تجملت بالفضائل الكثيرة التى أهلتها لذلك , وما كان يوجد من يفوقها من بعدها نقاءً وقداسة لكان الله قد ابطأ قدومه حتى جاء منها لذلك نحن نقول عن العذراء انها قديسة الأجيال وقديسة القديسين.
1. الاتضاع والوداعة
لعل الفضيلة الأساسية والعظمى التى جعلت الرب ينظر إليها انها كانت وديعة إذ قالت "لإنه نظر الى إتضاع أمته"(لو 48:1)
وقد ظهرت وداعة العذراء مريم فى عدة أمور:
أ. احتمال الكرامة:
قد يظن البعض إن احتمال الآلام صعب ولكن يجب أن نعرف إن احتمال الكرامة يحتاج الى مجهود اكثر من احتمال الآلام والإهانات وقد قال أحد القديسين:" هناك الكثيرون يحتملون الإهانات ولكن القليلين يحتملون الكرامات"
حينما صارت العذراء أماً لله لم تتكبر بل قالت " هوذا أنا أمة الرب" , واحتملت كرامة ومجد التجسد الإلهى منها.. مجد حلول الروح القدس فيها.. مجد ميلاد الرب منها.. ومجد جميع الأجيال التى تطوبها. احتملت كل ظهورات الملائكة لها وسجود المجوس أمام ابنها والمعجزات الكثيرة التى حدثت من ابنها فى ارض مصر بل ونور هذا الابن فى حضنها.
ب. إنكار الذات
حينما كان الرب فى الهيكل وهو طفل صغير وبحثت عنه العذراء ولم تجده مع الأقرباء والمعارف وكان معها يوسف النجار, وأخيراً وجدته فى الهيكل جالساً وسط المعلمين (لو2: 44-49) قالت له العذراء".... هوذا أبوك وأنا كنا نطلبك معذبين"
العذراء كانت تعرف ان ابنها ليس ابناً ليوسف ومع ذلك كانت تدعوه أباً له, والأفضل من ذلك أنها كانت تقدمه على نفسها فتقول" ... هوذا أبوك وأنا..." معطية له كرامة أكثر.
ج.خدمة الآخرين:
خدمة الآخرين تكون مبنية على المحبة والتواضع. القديسة مريم ذهبت إلى أليصابات لتخدمها عندما علمت أنها حبلى مع إنها أم المسيح, إلا إنها لم تمنعها كرامتها من تذهب إلى أليصابات فى رحلة مضنية شاقة ومضنية عبر الجبال وتمكث عندها 3 شهور تخدمها حتى ولدت يوحنا (لو 1: 39-56), فعلت ذلك وهى حبلى برب المجد.
1. الإيمان:
قالت أليصابات للعذراء" ... طوبى للتى آمنت أن يتم لها ما قيل من قبل الرب.." (لو 45:1).
فى بشارة الملاك للعذراء كشف لنا جوهر الإيمان العميق فى حياتها, هذا الإيمان الذى تسلمته من أبويها وإزداد نمواً بوجودها فى الهيكل وصلواتها وتضرعاتها المستمرة وحفظها لكلام الرب الذى كانت تخبئه داخل قلبها.
ولكى ندرك مقدار وعظمة إيمان العذراء لنقارنه بإيمان زكريا الكاهن
إن الكاهن الشيخ لم يصدق كلام الله الذى يتم فى حينه (لو 20:1) فلم تكن معجزة ولادة يوحنا من أم عاقر وأب شيخ, هى المعجزة الأولى فى التاريخ إذ سبقتها معجزات, فهوذا إسحق قد وُلد من إبراهيم ذو المائة عام وسارة العاقر (تك 18), وآخرون كثيرون : صموئيل من حَنَة (1صم1), وشمشون من منوح وزوجته (قض13), ويعقوب وعيسو من رفقة (تك 25), ويوسف من راحيل (تك 31:29) .
ولكن المعجزة التى لم يسبق أن حدث مثلها فى التاريخ من قبل هى معجزة ولادة المسيح من عذراء بدون زرع بشر, ولكن مع ذلك فان الأمر السهل لم يصدقه زكريا, والأمر الأصعب قبلته العذراء إذ كان لديها رصيد جبار من الإيمان.
كان إيمان العذراء يتصف بثلاث صفات:
أ. إيمان بلا شك
عندما بشر جبرائيل الملاك العذراء بميلاد المسيح قالت له مريم :"..ليكن لى كقولك..."( لو 38:1)
لقد فاقت العذراء الكثير من القديسين والقديسات فهوذا سارة عندما سمعت بشارة الملائكة بميلاد إسحق ضحكت وقالت" ..أبعد فنائى يكون لى تنعم وسيدى قد شاخ.."(تك12:18).
ليس سارة فقط لكن هذا توما الرسول يشك فى قيامة السيد المسيح من بين الأموات, وبطرس الرسول الذى إشتهر بكلمة : " إن شك فيك الجميع فأنا لا أشك" قال له السيد المسيح : " ...يا قليل الإيمان لماذا شككت...."
مع ان العذراء مريم سألت الملاك :"..كيف يكون هذا..." إلا إنها حينما رد عليها الملاك:"...الروح القدس يحل عليك.." لم تتساءل للمرةالثانية بل آمنت وقالت:"...ليكن لى كقولك..."
ب. إيمان بلا جدال:
هناك الكثير من النعم التى نفقدها إذا جادلنا وناقشنا وسألنا بعقلنا الجسدى وحكمتنا البشرية.لم يكن غريباً ان عاقراً تلد ولكن الغريب ان تلد عذراء لهذا قال الرب على لسان أشعياء النبى العظيم:"....يعطيكم السيد نفسه آية, ها العذراء تحبل وتلد ابناً...." (أش14:7) ومعروفة قصة سمعان الشيخ وتفكيره فى هذه الآية.
هناك الكثير من أنبياء العهد القديم قد طلبوا من الرب علامات:
+ موسى النبى حين أرسله الله وأعطاه علامات تحويل العصا الى حية وتحويل يده السليمة الى برصاء (خر4).
+ جدعون وعلامة جزة الصوف (قض6).
+ حزقيا الملك ورجوع ظل الشمس 10 درجات (2مل 20: 9)
+ زكريا الكاهن وعقوبته بالصمت .
+ أما العذراء مريم فلم تطلب لا من الرب ولا من ملاك الرب أي علامة .
ج.إيمان بلا خوف:
كثيرون من الذين رأوا الرب أو تكلموا معه أصابهم الخوفمثال أشعياء النبى (أش 5:6), ومنوح وزوجته (قض 23:13).
أما العذراء فلم تؤمن لأنها خافت بل آمنت وهى فى كامل ثباتها وقوتها. حقاً لقد اضطربت بعض الشئ. كان فى قلب مريم خوف الله ولكن لم يكن فى قلبها خوف من الله لأن المحبة الكاملة تطرد الخوف الى خارج.
بين إيمان إبراهيم وإيمان العذراء مريم:
لقد وعد الله إبراهيم بنسل فى الوقت الذى كان فيه قد صار شيخاً, وزوجته سارة كانتعاقراً ولكن " آمن إبراهيم بالله فحسب له براً" (تك 6:15).
"فهو على خلاف الرجاء آمن على الرجاء لكى يصير أباً لأمم كثيرة... ولا بعدم إيمانإرتاب فى وعد الله بل تقوى بالإيمان معطياً مجداً لله وتيقن أن ما وعد به الله قادر أن يفعله.."(رو 4: 18-21) فكان إبراهيم بهذا أعظم نموذج للإيمان فى العهد القديم.
لقد وضع الملاك غبريال القديسة مريم فى موقف مشابه للموقف الذى كان فيه إبراهيم وسارة حينما سمعا كلمة الله من فم الملاك
A. أخبر الملاك العذراء مريم عن حبل أليصابات التى كانت عاقراً فآمنت. والثلاثرجال أخبروا إبراهيم عن حبل سارة أمرأته التى كانت عاقراً فآمن.
B. الملاك يقول لمريم:" ليس شئ غير ممكن عند الله.."(لو37:1). وقال الرب لإبراهيم :"..هل يستحيل على الرب شئ.."(تك 14:18)
على العكس تماماً سارة لم تؤمن بكلام الملاك وكذلك زكرياالكاهن حتى إن نفس الكلام الذى قالته سارة فى (تك 18: 12) كرره زكريا فى (لو 1: 18).
A. كل بركات العهد القديم من إبراهيم حتى العذراء مريم كان بدايتها إيمان إبراهيم, وكل بركات العهد الجديد كان بدايتها إيمان العذراء مريم.
ولإلهنا المجد الدائم أبدياً آمين.