الخريستولي :-
في أربعينات القرن الماضي، وأثناء احتلال الألمان لجزيرة بطمس اليونانيّة، عاشت عائلة أرثوذكسيّة مؤمنة مؤلَّفة من أمّ وأربعة أولاد. ذهب الأب إلى الحرب، وبقيت الأمّ في المنزل الفقير مع أيقونة للسيّد المسيح كانوا يدعونها (الخريستولي). اعتادت أفراد هذه العائلة أن تركع كلّ مساء أمام هذه الأيقونة يصلّون من أجل العالم أجمع، ومن أجل الأولاد المشرّدين، ومن أجل السلام للجزيرة لكي يعود إليهم الوالد سالمًا.
صارت أفراد هذه العائلة تحبّ هذه الأيقونة محبّة جمّة، وتشعر أنّ المسيح حاضر معها، دائمًا، يسمع شكواهم وتضرّعاتهم، فغدت لهم كلّ شيء. وهكذا، أصبح (الخريستولي) فرحهم وسندهم، حتّى عندما كان الأولاد يعودون من المدرسة، كان أوّل عمل يقومون به هو إسراعهم إلى الأيقونة ""ليسلّموا على الخريستولي""، ويشكروه على مساعدته لهم في دروسهم، ثمّ يذهبون إلى الطعام.
ولكنّ هذه الأمّ التقيّة، التي ربّت أولادها على محبّة هذه الأيقونة والصلاة أمامها، أصبحت بحاجة إلى مال لتنفق على الأولاد، وتشتري ما يلزم لقوتهم في تلك الأيّام الصعبة. فبدأت تفتّش على ما لديها من أدوات ثمينة لتعرضها للبيع وتقتات بثمنها، ولمّا لم تجد لديها شيئًا، فكّرت ببيع الأيقونة. وكان بين الجنود الألمان من يعرفون قيمة الأيقونات، فكان يشتريها بأبخس الأثمان، ثمّ يبيعها بأسعار باهظة. وهكذا عرضت هذه الأمّ المسكينة الأيقونة على جنديّ، الذي ما إن رآها حتّى جذبته ملامح الربّ يسوع، وقدّم للمرأة مالاً جزيلاً مقابل اقتنائها، فقبلت الأمّ العرض، واتّفقت معه على السعر وعلى اليوم المحدّد لأخذها.
غير أنّ المشكلة الكبرى التي وقعت فيها كانت كيف ستُعلم أولادها بما عملت، ومتى سيكون ذلك، وماذا سيكون ردّ فعلهم، وقد غدا الربّ يسوع هو الأب الحقيقيّ لهم يبثّونه ما لديهم من قلق ومخاوف، ويطلبون منه ما يحتاجونه، مؤمنين بأنّه سيستجيب لهم؟ وأخيرًا، وعندما حان وقت تسليم الأيقونة، قالت لأولادها: "اذهبوا، للمرّة الأخيرة، إلى أيقونة الخريستولي، واسجدوا أمامها، وقبّلوها مودّعين، لأنّ رجلاً اشتراها وهو آتٍ بعد قليل لأخذها".
وهنا، علا صوت نحيب الأولاد، وصاحوا بصوت واحد: "ماما، ماذا تقولين؟!! هل فقدت عقلك؟! مع من سنتكلّم كلّ يوم؟! من الذي سيؤمّن لنا ما نحتاجه؟! من الذي سيمنحنا الفرح، من الذي سيعيد إلينا أبانا سالمًا". وهكذا بدأوا بالبكاء، وذهبوا إلى الأيقونة، والأمّ تتبعهم، وركعوا أمامها يصلّون والدموع الغزيرة تنهمر من عيونهم. وفجأة، رأت الأمّ الدموع تنهمر، أيضًا، من عينَي الربّ يسوع، وبقيت دمعتان ثابتتان في عينيه، وقد ارتسمت على محيّاه علامات الحزن الشديد. فارتعبت جدًّا، وأرادت أن تقول شيئًا، ولكن القرع المتواصل على الباب أسكتها. وعندما فتحت وجدت أمامها الجنديّ الذي أتى ليأخذ الأيقونة، فصرخت في وجهه قائلة: ""كلاّ. لن أبيعها ولو أعطيتني مال الأرض جميعه. نعم، لن أبيعها ولو اضطررت إلى الاستعطاء، فأولادي لا يستطيعون التخلّي عن سندهم وملجأهم الوحيد. تعال، وانظر بعينيك الدمعتين الجامدتين في عينَي الربّ يسوع، فهل أستطيع بيعها بعد أن بكى، ودموعه تساوي مال الأرض بأسره؟!!"".
وهكذا بقيت الأيقونة في البيت مع الأولاد الذين صاروا يبكون هذه المرّة من الفرح. وأمّا الإله الحنون الذي قال "دعوا الأولاد يأتون إليَّ"، فقد تمّم وعده معهم، إذ كان يؤمّن لهم كلّ ضروريّاتهم، ولم يحتاجوا، قطّ، إلى أيّة مساعدة حتّى عاد والدهم من الحرب. ثمّ ما لبثوا أن أكملوا تعليمهم وأسّسوا عائلات صالحة مؤمنة. وبعد وفاة والدتهم، اتّفقوا على أن يسلّموا الأيقونة إلى دير القدّيس يوحنّا الحبيب الكائن في الجزيرة، وهي ما زالت هناك إلى اليوم. وأمّا الأولاد، فبعدما تفرّقوا في أرجاء الأرض، صاروا يأتون كلّ سنة إلى الجزيرة ليسلّموا على ""الخريستولي"". ولقد صرّحوا بأنّهم لم يشعروا، يومًا، بمفارقته لهم، الأمر الذي كان يمدّهم بسعادة لم تعطهم إيّاها نجاحاتهم المادّيّة، كما قالوا بأنّ صورة يسوع وهو يبكي أثّرت فيهم جدًّا حتّى باتوا حريصين على أنفسهم من الخطيئة، ""لئلّا يبكي عليهم"" بحسب تعبيرهم.+.+.+