فرد أبونا (بيشوى) قائلاً :
- هامنوب ...
هذه الكلمة قبطية (hamnoub) ومعناها صائغ أو من يُشكل الذهب.
فالراهب الحقيقي هو بالفعل الصائغ الذى يُشكل ذهب الفضائل المسيحية و يُشكلها في قوالب عدة، ليخرج في نهاية الأمر عمله بل حياته بأكملها عظة ذهبية صامتة ، يتعلم ويتعظ منها الجميع....
وجميعنا يعرف أن الذهب المُشكل أغلى بكثير من الذهب الخام ،كذلك الراهب الذى يأخذ من مبادئ الحياة الرهبانية(الذهب الخام) وكــــــ(هامنوباً) بارعاً يُشكل منها ويزين حياته ، لذا قيل عن الرهبنة إنها الطريق الملوكى ، كما قيل أيضاً عن مرتبة الرهبان الحقيقيين " إنه لا توجد مرتبة جليلة كمثل مرتبة الرهبان إذا حفظوا طقوسهم " . فالرهبنة هي حلقة الاتصال بين الكنيسة المجاهدة والكنيسة المنتصرة إذ يعيش الرهبان كبشر سمائيين أو ملائكة أرضيين . فهى طريق الكمال المسيحي ، قوامها البتولية و الطاعة و الفقر الاختياري ، وهدفها خلاص النفس والإتحاد بالمسيح .
- "أخذت أكثر من حقك يا أبونا (كيرلس)"
نطق بهذه العبارة أبونا (أنُسيمُس) ماذحاً وهو يستطرد قائلاً :
- وماذا عن حقى ؟؟؟؟
أخذ جو من النشوة والمحبة والمذاح يدور بينا لدقائق معدودة ....
وفى نهاية الحديث قام أبى الشيخ ورفع يديه للسماء ، وهو ناظر تجاه الصليب الخشبي المتواجد فوق المغارة ، وبدأ يصلى صلاة عميقة ، وصلى بعدها الصلاة الربانية والتي سمعتها وكإننى لأول مرة أسمعها في حياتى ، ثم بدأنا بالسلامات الأخيرة قبل الرحيل....
وقبل أن أتحرك قلت لأبى (بيشوى):
- قدسك أخبرتنى فى البداية أنك ستعطينى ورقة تشرح المبادئ الأساسية للحياة الرهبانية .
فأبتسم بحنان بالغ قائلاً :
- أنت تفكر بجدية وبتركيز فلم تنسَ شيئاً .....
- و الرهبنة جدية ومسئولية ....
ثم دخل أبونا (بيشوي) إلى مغارته، وأثناء مغادرته المكان ، وقع أمام نظرى بروازاً متهالكاً ، متواجداً بجوار باب المغارة وداخله صورة ، قد أزالت الشمس ملامحها .
فسألت أبونا (أنُسيمُس) عنها فقال لى :
- لا أدرك يا بنى لمن هذه الصورة...
وأثناء ذلك خرج أبونا (بيشوى) من المغارة وأحضر لى ورقة صغيرة في حجم ورقة الكشكول...كُتب عليها :
( برنامج تقويم السيرة لمن يشاء )
وأثناء السلامات ما بين أبونا (بيشوى) و أبونا (أنُسيمُس) تصفحت الورقة سريعاً ...
وكان مضمونها كالاتى :
(مارس سنة 82)
برنامج تقويم السيرة (لمن يشاء)
أ-الإصرار الشديد علي حفظ قوانين القلاية:
- قوانين المزامير من نصف الليل حتي الغروب، دون أي نقص أو اختصار مهما كانت الأسباب.
- حضور التسبحة يومياً وعدم إعطاء أي عذر للنفس في التأخير عن الحضور حتي لو احتاج الأمر إلى الجلوس.
- قراءة الكتاب المقدس لا تقل عن ثلاث ساعات يومياً مع التأمل.
ب-العناد مقابل الأفكار :
التي تجتذب النفس لتبعدها عن الاهتمام الأوحد وهو خلاص النفس وإلتزام التسبيح الدائم:
- أي كلام أو تفكير في شئون الآخرين أو تدبير الدير بجيد أو ردئ يعتبر (خطية إدانة)، يلزم مواجهتها بشدة حتي تعتاد النفس الهذيذ الدائم بالتسبيح والشكر والصلاة من أجل الجميع.
- إشغال النفس في القلاية بالنساخة أو الترجمة أو أي عمل جاد يشد النفس لكي تلتصق بالرب يسوع وحده بحب واشتياق حار.
ج- أفضل فضيلة يقتنيها الراهب أن يأتي باللوم على نفسه في كل شيء.
د-إجعل نفسك مثل طين الأزقة، حتى يتسنى لكل أحد أن يطأك بقدميه.
ه – قل دائماً أخطأت، إذا أخطأت أو لم تخطىء.
و- ثلاث كلمات ترد بها: نعم، حاضر، أخطيت.
وبعد تلك السلامات و أثناء خروجى من أمام المغارة، وقعت عيني مرة ثانية على نفس الصورة المتهالكة ، واستشعرت كما لو كنت أعرف هذا القديس المرسوم داخل الصورة ، ولكننى لا أدركه من إختفاء ملامحها ، فأنتابنى الكثير من الفضول لأسأل عن صاحب الصورة التي يتشفع بها أبونا (بيشوى) فقلت بلهفة له:
- حاللنى يا أبى الفضول يقتلنى أن أعرف من صاحب هذه الصورة ؟!!
فأبتسم أبونا (بيشوى) قائلاً :
- لا تعرف من هذا ؟؟!!!
فرددت على الفور :
- يا أبى أنا أعتقد إننى أعرفه ، ولكن أشعة الشمس غيرت من ملامح الصورة .
فقال لى وهو يستعد لغلق باب مغارته :
- هذا هو أبى ومعلمى أبونا (عبد المسيح الحبشي).
ثم أستطرد قائلاً :
- لقد كان هامنوباً حقيقياً.
ثم نظر لى بنظرة جادة قائلاً :
- يابنى .. لا تنسي ... كن هامنوباً..
- هامنوباً حقيقياً....
ثم بدأ بإغلاق باب المغارة، أثناء تحركى مع أبونا (أنُسيمُس) نحو السيارة ، فقلت لأبونا (أنُسيمُس) بثقة :
- عرفت الآن من يكون والد والد أبى . إنه أبونا عبد المسيح الحبشي .
- فهذا بديهياً جداً أن يكون مرشد أبونا القديس (بيشوى) راهباً قديساً من رهبان الحبشة الذين أعتادوا الحياة الجبلية الصعبة وحياتهم الرهبانية كلها مغائر...
- طوباكم يا أبائي القديسين ...
- طوباكم .....
أكملت مع أبونا (أنُسيمُس) السير وأقدامنا تغوص في هذه الرمال الكثيفة التي تفصل طريق المغارة بالسيارة ، وأثناء ذلك لمحت أبونا (بيشوى) يرمقنا من خلف باب المغارة منذ أن تحركنا من باب المغارة حتى السيارة فاستأذنت أن أسأل أبونا (أنُسيمُس) عن السبب فقال لى :
- هذه هي طريقة أبونا (بيشوى) للصلاة، يظل هكذا واقفاً يصلى لمن كان عنده حتى يختفى من أمام بصره ....
ثم صمت لوهلة وبدت على ملامح وجهه الدهشة سائلاً :
- ولكن بالحق يا بنى !!!
- سمعت أبونا (بيشوى) يقول لك كلمة لأول مرة أسمعها منه !!!
- هذا القديس بحق جعبته لا تخلو مطلقاً من كل جديد !!!
ثم استطرد والحروف تخرج من فِيه بصعوبة قائلاً :
- قال لك كن هانورياً أو كن هاموناتياً ...
- شيئاً من هذا القبيل ...
- ماذا كان يقصد بهذه الكلمة ؟؟!!
ابتسمت ابتسامة عريضة ورددت قائلاً :
- كن هامنوباً حقيقياً .....
ثم استطردت قائلاً :
- سأقول لك يا أبي ماذا كان يعنى بـــــــــ ....
- هــــــــــــــامــــــــنــــــــوب ......
قد أُكمل( يو 19 : 30 )
✍ صفحة مقالات أبونا ويصا الأنبا بيشوي

