نُولَد بلا إختيار ونموت بلا إختيار وبين الميلاد والموت رحلة نسير فيها جميعًا، إنها رحلة الحياة. إنها رحلة عجيبة حقًا تجمع بين كثير من المتناقضات فهي طويلة جدًا وفي نفس الوقت قصيرة، حتى أن الكتاب المقدس يقول أنها كبخار يظهر قليلاً ثم يضمحل (يع14:4). نتقابل في هذه الرحلة مع آلاف من البشر ونَمُر بمواقف كثيرة لا حصر لها ..
كانت الساعة تقترب من التاسعة صباحًا حين خَرَجْتُ من قلايتي، وقد أغلقت بابها لأفتح قلبي للعمل الذي كلفني به رئيس الدير. وفي طريقي إلى عملي هذا أوقفتني إمرأة بسيطة ظهرت على وجهها كثير من علامات الشيخوخة، كانت تلتقط أنفاسها بصعوبة من شدة التعب، حول عينيها تجاعيد لست أدري متى ظهرت، كان يلتف حولها عدد من الأطفال ربما خمسة أو ستة، وقد أوقفتني هذه المرأة ولم تطلب مني شيء ولكنها قالت لي بمنتهى اللطف وبصوت هادئ (صلي لأجلي ولأجل هؤلاء الأطفال)، فقلت لها (المسيح يبارككم)، وأدرت ظهري لكي أمضي في طريقي ولكن إستوقفتني دموع عيناها ..
نعم لقد أوجعتني دموعها أكثر من دموع أمي .. فوضعت يدي على كتفها الهزيل لكي تهدأ فكانت ترتعش وهي تبكي وقالت لي (أولادي الثلاثة قد ماتوا في حادث أليم وقد تركوا لي هؤلاء الأطفال وأنا الآن مسئولة عن تربيتهم وتعليمهم وتسديد كافة إحتياجاتهم وأنا لا ألوم الله على حرماني من أولادي، فأولادي أعطاهم لي المسيح وهو الذي أخذهم وأنا أثق في محبة المسيح وأشكره على كل شيء، ولكنني أريد منك يا أبي أن تطلب من المسيح لكي يساعدني أن أكمل رسالتي وأزرع هؤلاء الأطفال في حضن المسيح والكنيسة).
وتوقفت هذه المرأة عن الكلام، ولكن لايزال صوت كلامها في أذني وقد حرك في قلبي مشاعر لن أنساها. وأدركت أن هناك فرق بين إنسان يحيا حياة الفضيلة وآخر يتحدث عنها فقط.
وأخذت أسأل نفسي ..
كيف لم تتذمر هذه المرأة على الله الذي أخذ أولادها الثلاثة؟ إنما هي تحيا حياة الشكر ولم تجدف على الله ولا بكلمة واحدة .. من الذي غرس فيها هذا الإيمان؟ من هو مرشدها الروحي وأي الكتب الروحية تقرأ؟ ومن الذي يشجعها على هذا الجهاد؟ أين أنا من إيمان هذه المرأة؟ أين نفسي من حياة الفضيلة؟ وأخذت أسأل نفسي وأجيب. ثم نظرت إلى عينيها وقد كان في عينيها حنان يذكرني بحنان المسيح .. وأحنيت رأسي أمامها وقُلْتُ لها (باركيني يا أمي) فرفضت بشدة في بداية الأمر ولكنها وافقت في النهاية أمام إلحاحي ووضعت يدها على رأسي وشعرت أنني أخذت بركة كبيرة .. وأدركت أن القداسة محصورة في القلب وليس في فئة معينة من الناس. وأدركت أن الله عندما يسكن في القلب فإنه يغير هذا القلب.
وتذكرت حينها رأي قاله الفيلسوف الشهير سقراط وهو (الإنسان الذي يرغب أن يكون فاضلاً لابد أن يكون على درجة معينة من المعرفة وبمقدار المعرفة تكون الفضيلة)، وتمنيت أن يكون سقراط لا يزال حيًا و يشاركنا أنا وهذه المرأة هذا الحديث لكي يستطيع أن يقدم مفهوم آخر للفضيلة. فهذه المرأة لم تعرف شيء من العلوم التي كان يقصدها سقراط ومع كلٍ فقد إقتنت فضيلة الشكر والإحتمال، فلابد إذاً أن هذه المرأة كانت ممتلئة من الروح القدس، وقد إستجابت لعمله في داخلها فقادها إلى حياة الفضيلة وكمال معرفة مقاصد الله وتدبيره. ومضيت في طريقي بعد أن علمتني هذه المرأة درسًا لن أنساه.