من ذا الذي لم يخطئ، قطّ، في حياته؟! إن سكنت إلى جلسة هادئة مع نفسك، فمن المستحيل ألاّ تجد في إحدى زواياها، ولو كان في الطرف الأقصى منها، خطيئة وإن كانت طفيفة وليست بذي بال ( بالحقيقة، لا توجد خطيئة طفيفة، لأنّ الصغائر تلد الكبائر). كلّ خطيئة لم تقدّم عنها توبة هي قبر لك، هي موتك الحقيقيّ. ولكن، ولكي تخلص، وتبعث نفسك من رمسها، عليك أن
تصرخ بقوّة: “يا ربّ، من قبل أن أهلك بالكلّيّة خلّصني”. ولكي تستحق الولوج إلى الملكوت العلويّ، اهتمّ بأن تطرد من داخلك كلّ ظلّ للخطيئة، وأن تقتلع من نفسك، بواسطة التوبة الصادقة، جذور كلّ الخطايا، إذ لا شيء يخلّصك إلاّ التوبة، والتوبة فقط. أرأيت، إذًا، القوّة الفعّالة التي سكبها الله في التوبة؟!!
ها إنّ التوبة خلّصت امرأة كانت غارقة في شرورها، وانتزعتها من ضلالتها، مريم المصريّة، فكيف، إذًا، لا تخلّص التوبة أناسًا آخرين، حتّى المجرمين منهم؟!! نعم إنّ الصوم الكبير هو ساحة حرب نفوز بها على إبليس خصمنا بالصوم والصلاة، ونتغلّب على خطايانا، ونذلّل أهواءنا، فنربح بذلك الحياة الخالدة، الحياة الأبديّة.
الصلاة؟ ما هي الصلاة؟ إنّها الفضيلة الأكبر التي تقيمك من قبر هفواتك، وتنتشلك من تحت الثرى، ثرى زلاّتك. بالصلاة تصرخ إلى الله، فينقّيك من أدرانك، ويحميك من كلّ شرّ، ويقوّيك على كلّ هوًى. وعندئذ، ينفتح قبرك ليقوم منه أمواتك، وأعني كلّ فساد ودنس، ويضمحلّ كلّ نتن. الصلاة المقدّسة تقيم كلّ واحد منّا عندما يحيا الاستقامة والصدق، عندما يثمر الثمر الروحيّ الذي يؤهّله لسكنى السماء، عندما يصرخ بمخافة ورعدة: “انظر، يا ربّ، إلى قبوري، قبوري التي لا حصر لها، ففيها ترقد نفسي، نفسي المائتة، البعيدة عنك. قل كلمة، يا ربّ، فيقوم كلّ موتاي، لأنّك أنت، يا ربّ، أعطيتنا قوّتك الإلهيّة، التي تخوّلنا أن نقوم معك بقيامتك، وتقيمنا من قبر توانينا وتراخينا”.
نعم، بمحبّة الخطيئة والخضوع للأهواء تموت نفسنا. الخطيئة بعدٌ عن الله، ونفسنا تموت عندما تفارق الله وتبتعد عنه. الخطيئة هي قوّة تفصل النفس عن خالقها، ونحن عندما نركن إلى الخطيئة، ونميل إلى الشهوات الدنسة، نكون قد أحببنا موتنا الشخصيّ، أحببنا قبورنا، القبور المجصّصة التي تثوي نفسنا فيها وتنحلّ.
وعلى العكس، عندما نعود إلى ذواتنا، عندما نتنبّه، عندما تقرع التوبة باب قلبنا بشدّة، عندئذ تقوم أمواتنا من أجداثها، وتنتصر أنفسنا على محاربيها، وتفوز على سيادة علّة كلّ الزلاّت، على الشيطان. نعم، إنّك تنتصر، ولكن بقوّة الربّ يسوع المسيح القائم من بين الأموات. لهذا لا توجد، بالنسبة لنا نحن المسيحيّين، خطيئة تغلبنا حتّى المنتهى، أو تعتزّ علينا وتقوى.
ثق بأنّك بالتصاقك بيسوع دومًا، أكثر قوّة من أيّ خطيئة تؤلمك، وأكثر قوّة من أيّ هوًى يعذّبك. ربّما تسألني كيف؟ بالتوبة، إذ ما هو الأمر الأسهل منالاً منها؟!
تستطيع أن تصرخ من الأعماق بلا انقطاع: “يا ربّ، من قبل أن أهلك بالكلّيّة خلّصني”. إن الربّ، بحنوّه المعتاد، لن يتغافل عن معونتك، وسيقيم نفسك المائتة من بين الأموات،
وستعيش في هذا العالم الحاضر وكأنّك إنسان آتٍ من العالم الآخر، إنسان قام ويعيش حياة جديدة، حياة الربّ الناهض، الذي يمدّك بقوّته الإلهيّة حتّى لا يعود للخطيئة من سلطان عليك، فيقتلك ويميتك. من الممكن أن تعود لتسقط ثانية، ولكنّك صرت تعرف، الآن، ما هو السلاح الذي يجب أن تتقلّده، وما هي القوّة التي تقيمك من قبر أسوائك وتسندك. فإن خطئت خمسين مرّة في اليوم الواحد، وإن كان تراب خمسين قبرًا يغطّيك في اليوم الواحد، فلا تجزع، ولا تيأس، بل اصرخ: “يا ربّ، هبني نعمة التوبة، ومن قبل أن أهلك بالكلّيّة خلّصني”. والربّ الكلّيّ الصلاح، الذي يعي هشاشتنا وضعفنا ورخاوة الإرادة البشريّة سيقول لك” “تعال إليّ، يا ابني، فإنّه ولو أخطأت سبعين مرّة في اليوم الواحد، تعال، أيضًا، وقل لي: يا سيّدي، لقد أخطأت” (متّى 18: 21-22). هذه الوصيّة أعطاها الربّ لنا نحن المرضى الضعفاء المنحنين من وفرة سيّئاتنا، وأعني بذلك غفرانه غير المحدود لجبلته البشريّة. لهذا أعلن لنا بأنّ “فرحًا عظيمًا يكون في السماء بخاطئ واحد يتوب” (لو 15: 7). كلّ العالم السماويّ ينظر إليك، أيّها الأخ ويا أيّتها الأخت، كيف تعيشان على الأرض. هل سقطتما في خطيئة شنيعة ولم تبادرا إلى التوبة؟! إذًا، الملائكة تنتحب وتبكي في السماء، ولكن ما إن تخفّا للسلوك في درب التوبة، حتّى يعمّ الفرح والحبور صفوف الملائكة، ويطربون لأخويهما التائبين، القائمين.