كلمة ممثل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في مجلس الكنائس العالمي
كلمات تعبر عن كنيسة أمينة آبائية طاهرة بعمل الروح القدس فيها..
كلمة نيافة الحَبر الجليل الأنبا كيرلس
الأسقف العام بلوس أنجلوس – الكنيسة القبطية الأرثوذكسية
أشكر الله أنه بعد سبعة عشر قرنًا أن نجتمع معًا لتكريم المجمع المسكوني الأول في نيقية، وللتأمل في عطائه الدائم لحياة الكنيسة ووحدتها. وأنا ممتن لمنظمي هذا المؤتمر العالمي السادس للإيمان والنظام، كما أشعر بتواضع عميق إذ أتكلم بالنيابة عن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية. وأسأل الله أن تكون هذه التأملات لائقة بالمناسبة وبنّاءة لمسيرتنا المشتركة نحو الوحدة.
لا يزال مجمع نيقية حدثًا حاسمًا في التاريخ المسيحي – ليس فقط من أجل صياغاته الخاصة بالعقيدة الثالوثية والمسيحانية، بل أيضًا من أجل رؤيته الدائمة لوحدة الكنيسة. فالوثائق المجمعية تؤكد مرارًا على الوحدة المنظورة؛ وحدة لا تقوم على التنازل، بل على الأمانة للحق. ومع ذلك، فإن الوحدة لا تتحقق بمجرد قانون الإيمان وحده؛ بل هي مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالخصائص الجوهرية التي تميز الكنيسة.
واليوم، أود أن أطرح أطروحة بسيطة: إن وحدة الكنيسة تعتمد على قداستها، وكاثوليكيتها (شموليتها)، ورسوليتها. فهذه الأركان الثلاثة ليست زخارف اختيارية، بل هي أعمدة أساسية للشركة الحقيقية والمرئية
أولًا: القداسة
في مجمع نيقية، فهمت القداسة بوصفها حالة وجودية وخلاصية في آن واحد. فالكنيسة مقدسة لأنها جسد المسيح الحيّ، وهي موضع سكنى النعمة الإلهية حيث يرتفع الإنسان من حالة الفساد إلى حالة المجد. وقد عبّر القديس أثناسيوس عن هذا السر بقوله:
«الله صار إنسانًا لكي يصير الإنسان شريكًا في الحياة الإلهية».
إن القداسة ليست ثمرة جهد بشري أخلاقي فحسب، بل هي عطية إلهية تُمنح لمن يطيع كلمة الله، ويثبت في الصلاة، ويشارك في الأسرار المقدسة. وقد أكد القديس كيرلس الإسكندري هذه الحقيقة حين قال:
«أخذ الذي لنا وأعطانا الذي له»،
حتى نستطيع أن نحقق قول الكتاب: «كونوا قديسين لأني أنا قدوس».
إن القداسة هي العلامة الفاصلة بين الإيمان الأرثوذكسي والهرطقة. فتعليم أريوس لم يكن مجرد خطأ فكري، بل كان غير مقدس لأنه خرج من عقل بشري معزول عن الروح القدس. أما مجمع نيقية فكان مقدسًا لأنه انعقد تحت إرشاد الروح القدس، والآباء الذين شاركوا فيه لم ينطقوا مما لهم، بل بما تسلموه من الرسل ومن التقليد الكنسي.
وقد أكدت المجامع اللاحقة أيضًا أن القداسة هي ثمرة حضور الروح القدس في الكنيسة. فهو الذي حل يوم الخمسين، وهو نفسه الذي قاد آباء نيقية والقسطنطينية وأفسس، ليُعلن أن القداسة ليست حدثًا تاريخيًا عابرًا، بل هي مسيرة مستمرة وحضور دائم لله في الكنيسة.
فالقداسة هي الخيط الإلهي الذي يربط بين حلول الروح القدس في يوم الخمسين، وبين قرارات المجامع المسكونية، وبين حياة الكنيسة اليوم. وهي ليست فقط حالة روحية داخلية، بل دعوة للتكريس والانفصال عن روح العالم، لكي تبقى الكنيسة منارة حق، شاهدة للنعمة، ونبوية الصوت في وجه كل انحراف.
«لقد أخذ ما هو لنا وأعطانا ما هو له» حتى نستطيع أن نحقق وصية الآب القائلة: «كونوا قديسين لأني أنا قدوس» (1بطرس 1: 16).
إن القداسة هي العلامة الفاصلة بين الإيمان المستقيم والهرطقة. فتعليم أريوس لم يكن مجرد خطأ فكري، بل كان تعليمًا غير مقدس، لأنه خرج من عقل بشري متكبر يعتمد على التأمل الذاتي، لا من روح الحق. أما مجمع نيقية فكان مقدسًا، لأنه انعقد تحت إرشاد الروح القدس. فالآباء لم ينطقوا من ذواتهم، بل تكلموا بما تسلّموه من الكنيسة ومن الإعلان الإلهي.
وقد جاء المجمع المسكوني الثاني سنة 381 ليؤكد نفس هذا البعد، معلنًا أن القداسة هي ثمرة حلول الروح القدس في الكنيسة، ذلك الروح الذي دعاه القديس أثناسيوس روح التقديس. فهو ذات الروح الذي حلّ في يوم الخمسين، واستمر يقود الكنيسة من مجمع نيقية إلى القسطنطينية وأفسس.
وقد شهد القديس كيرلس الإسكندري أن الروح نفسه الذي ألهم آباء نيقية هو ذاته الذي ألهم آباء أفسس، فحفظ وحدتهم في الإيمان واستمرارية شهادتهم للحق. حتى أن فاليريانوس الأيقوني وصف نيقية وكيرلس بأنهما مقدسان، لأن كليهما كان منقادًا للروح الواحد.
وهكذا، فإن القداسة هي الخيط الإلهي الذي يمتد من يوم الخمسين، مرورًا بالمجامع المسكونية، وحتى حياة الكنيسة اليوم. إنها ليست مرحلة زمنية، بل هي هوية الكنيسة الثابتة وعلامة حضور الله المستمر فيها.
ثانيًا: الجامعة
العمود الثاني من أعمدة الوحدة هو الجامعة، وهي لا تعني مجرد الانتشار الجغرافي للكنيسة، بل تعني ملء الإيمان والحياة الأسرارية في المسيح. قد عرّف القديس فينسنت الليرنسي الجامعة بأنها: «ما آمن به الجميع، في كل مكان، وفي كل زمان». فالهرطقات ترتبط دائمًا بأشخاص وأفكار محدودة ومؤقتة، مثل أريوس أو مقدونيوس أو نسطور، بينما الإيمان الجامع هو الإيمان الذي يحمل الحق في جوهره ويُعلَن للعالم كله دون تحريف.
وقد أوضح القديس كيرلس الأورشليمي أن الكنيسة تُدعى “جامعة” لأنها تُعلّم الحق بكامله دون نقص أو تشويه، وتُعلن الخلاص لجميع الناس. وحتى قبل مجمع نيقية، وجّه البابا ألكسندر الإسكندري رسائله إلى شركائه في الليتورجيا مشيرًا إلى الكنيسة بأنها “الكنيسة الجامعة الرسولية الواحدة”، ليؤكد أن الإيمان الذي تحمله الكنيسة هو إيمان غير قابل للفساد أو الانقسام.
إن الجامعة تعني السير معًا في طريق واحد، أي حياة الشركة المجمعية. ليست الجامعة وحدة شكلية أو نظامًا موحدًا، بل هي تناغم الإيمان داخل تنوع مشروع، حيث تُعلن الكنيسة الإيمان الواحد في كل مكان، وإن اختلفت اللغات والطقوس والثقافات. فالجامعة لا تُلغي الخصوصية، لكنها توحّد الجميع في الإيمان الواحد والنعمة الواحدة والحياة الواحدة في المسيح
ثالثًا: الرسولية
إذا كانت القداسة تُعطي الكنيسة طابعها الإلهي، وكانت الجامعة تُظهر امتلاءها وشمولها، فإن الرسولية تُرسّخ جذورها التاريخية والإيمانية. فالكنيسة لا تقوم على فكرة بشرية أو فلسفة زمنية، بل على الإيمان الذي سلّمه المسيح إلى رسله، والذي انتقل بأمانة عبر الآباء على مرّ العصور.
ورغم أن لفظ “رسولية” أُدخل رسميًا إلى قانون الإيمان في مجمع القسطنطينية سنة 381م، إلا أن مفهوم الرسولية كان راسخًا منذ القرون الأولى، كما يظهر في كتابات القديس إيرينيئوس وترتليانوس وكليمنضس السكندري وأوريجانوس. لقد أكد القديس أثناسيوس أن مجمع نيقية لم يأتِ بعقيدة جديدة، بل ثبّت الإيمان الرسولي الذي تسلّمته الكنيسة من الكتاب المقدس والتقليد الحي.
وقد قال القديس أثناسيوس موضحًا:
«لم يكتب الآباء في ما يخص الإيمان: رأينا أو رأيي، بل كتبوا: هكذا تؤمن الكنيسة الجامعة، لكي يظهروا أن ما أعلنوه لم يكن رأيًا شخصيًا مستحدثًا، بل هو نفس الإيمان الرسولي الذي تسلّموه وسلموه دون تغيير.»
إن ما دوّنه آباء نيقية لم يكن اكتشافًا شخصيًا أو فكرًا جديدًا من صنعهم، بل هو عين التعليم الذي تسلّموه من الرسل، والذي انتقل بأمانة من الآباء إلى الأبناء عبر الأجيال دون انقطاع.
ويقول القديس أثناسيوس مخاطبًا القديس سرابيون:
«الرب هو الذي أعطى، والرسل هم الذين كرزوا، والآباء هم الذين حفظوا؛ وعلى هذا التقليد تأسست الكنيسة، ومن يبتعد عنه لا يمكن أن يكون مسيحيًا ولا يحق له أن يحمل هذا الاسم».
ولهذا السبب تلقّبه الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بلقب “أثناسيوس الرسولي”، لأنه جسّد في شخصه أمانة كاملة للتسليم غير المنقطع. وقد قال بنفسه:
«وفقًا للإيمان الرسولي الذي تسلّمناه من الآباء، قد سلمت أنا أيضًا هذا التقليد، دون أن أضيف شيئًا من عندي، بل ما تعلمته هو ما نقشته بما يتفق تمامًا مع الكتب المقدسة».
أما المجامع التي تلت مجمع نيقية – مثل القسطنطينية وأفسس – فلم تأتِ لتحلّ محله، بل جاءت لتثبّت إيمانه وتعميق فهمه تحت إرشاد الروح القدس نفسه الذي قاد نيقية. وقد أعلن القديس كيرلس الإسكندري قائلًا:
«لم أحِد عن الإيمان المستقيم، ولم أخالف قانون الإيمان الذي وضعه المجمع النيقاوي المقدس والعظيم».
ومن ثم، فإن الرسولية لا تعني الابتداع أو تقديم فكر جديد، بل تعني الأمانة الكاملة للاستمرارية؛ أي تفسير الإيمان تفسيرًا أمينًا، لا تبديله أو إعادة تشكيله بحسب أهواء العصور. وكما قال القديس فينسنت الليرنسي:
«دعوتنا ليست أن نأتي بجديد، بل أن نحمل الحق القديم بروح جديدة».
فالكنيسة تبقى رسولية لا فقط من خلال اعترافها بالإيمان، بل من خلال حياتها الأسرارية، وتسلسل خدمتها الكهنوتية، والتقليد الحيّ الذي يُسلَّم من جيل إلى جيل، ومن أب إلى ابن، شاهدًا لحضور الروح القدس المستمر في الكنيسة
الخاتمة
إن الرؤية النيقاوية للوحدة تُعلّمنا أن الكنيسة لا تبلغ وحدتها الحقيقية من خلال خفض المعايير أو تجاهل الاختلافات، بل من خلال الالتزام الأعمق بالحق الإلهي، أي بالثبات على القداسة، والجامعة، والرسولية. فهذه ليست مجرد صفات لاهوتية، بل هي هوية الكنيسة وجوهر كيانها.
• القداسة تقود الكنيسة إلى الروح القدس، مصدر تقديسها وحياتها.
• الجامعة تحفظ ملء الإيمان والنعمة في الكنيسة عبر كل الأزمنة والأمكنة.
• الرسولية تُرسّخ الكنيسة في الإيمان المُسلَّم مرة للقديسين، وتربطها بالجذور الأصيلة للرسل.
معًا، تُشكّل هذه الأعمدة الثلاثة أساس وحدة الكنيسة، وتضمن استمرار رسالتها الخلاصية في العالم.
وعلى ضوء ما يقوله الرسول بولس في رسالة أفسس (3: 17-18)، يمكننا أن نرى أن الكنيسة في قداستها تجسد ارتفاع محبة الله، وفي جامعتها تُعلن اتساع رحمته التي تشمل جميع الشعوب والثقافات، وفي رسوليتها تُظهر طول وعمق أمانته الثابتة في التعليم الرسولي الذي يدوم من جيل إلى جيل.
فإن كانت الكنيسة تسعى إلى الوحدة الحقيقية، فعلَيها أن تحيا من جديد بهذه الأبعاد الأربع للمحبة الإلهية: الارتفاع، الاتساع، الطول، والعمق.
وفي سعينا نحو هذه الوحدة، يجب أن نضمن أن تكون جهودنا خالية من أي غاية بشرية أو مصالح زمنية، بل أن تكون أمينة للكتاب المقدس، منسجمة مع تعليم الآباء، ومتجذّرة في التقليد الرسولي.
وإذ نقف اليوم تحت إرث مجمع نيقية، يتضح أمامنا الطريق:
إن الوحدة الحقة لا تأتي بالدبلوماسية أو العاطفة، بل من خلال استعادة الرؤية النيقاوية الأصيلة – الرؤية التي تؤكد وحدة مقدسة، رسولية، وجامعة – متجذرة في المسيح، الرب الواحد للكنيسة الواحدة.
مجلس الكنائس العالمي يوم 25/10/2025


