"من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضاً".
بهذه الكلمات يعلمنا الرب اليوم أن عظمة النفس هي سمة الفلسفة السماوية، ويوضح لنا أي قوة تخص أولئك الذين يحاربون الحرب المسيحية.
مثل هذا التصرف، يبدو صعب بالنسبة للإنسان الذي لا يعرف مقدار عظمة المكافأة التي لفضيلة الصبر. إذا كان شخص ما غير راغب في أن يعاني ولو صفعة يد واحدة للحصول على إكليله، هل تظن أنه من الممكن أن يتحمل الجروح الضرورية للفوز بالنصر؟! هل يمكنه إلتماس المجد من خلال الموت، إذا كان يحسب مجرد إصابة من إنسان
ثمناً باهظاً مقابل المجد الذي يحصل عليه من الله؟!
يا رجل، عندما كنت طفلاً، ألم تتعلم المبادئ من خلال وسائل مشابهة؟ الصفعات هي الضربات التي تعطى للأطفال لا للرجال البالغين. هكذا أطفال المسيح يتم تحفيزهم بوصايا خفيفة، حتى عندما يكونوا رجالاً يعيشون بحسب الإنجيل يكون عندهم القوة الكاملة للإلتزام بالوصايا الأكثر جدية. ويأملون أن يحصلوا بهذه الأتعاب والآلام - أو حتى بالموت - ما لم يستطيعوا أن يحصلوا عليه من خلال الإصابات الخفيفة أثناء طفولتهم الروحية.
ولنثبت أن الوصايا ليست صعبة، لنعيد تكرارها: "سمعتم أنه قيل للقدماء .. عين بعين وسن بسن وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر. بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضاً. ومن أراد أن يُخاصمك ويأخذ ثوبك فأترك له الرداء أيضاً. ومن سخرك ميلاً واحداً فاذهب معه اثنين".
"سمعتم أنه قيل للقدماء". لأي قدماء؟ لليهود. الحقد هو الذي جعلهم قدماء لا العمر، غضبهم جعلهم متلهفين جداً للإنتقام حتى أنهم طالبوا برأس مقابل عين، وحياة مقابل سن. ولذلك كان الناموس يكبح مطلبهم بالثأر، وكان يهدف بأن يجعل أولئك الضعفاء جداً على تقديم مغفرة أن يستسيغوا حصّة من الثأر، أي أن يطلبوا إنتقاماً مساوياً فقط للإصابة التي أوقعها المعتدي في غضبه.
على أية حال، هذا كان للقدماء. لنسمع ما يأمرنا به الصلاح الإلهي نحن الذين تجددنا من خلال النعمة. "وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر". عندما يتكلم هكذا، يريدنا أن لا نرد الرذيلة بالرذيلة، بل أن نتغلب عليها بالفضيلة. يريدنا أن نخمد الغضب وهو لا يزال مجرد شرارة، لأنه إذا ما تطور إلى شعلة كاملة من الإهتياج، لن يُكبح بدون إراقة دماء.
إن اللطف يقهر الغضب، الوداعة تخمد الإهتياج، الصلاح ينتزع الحقد بعيداً، المودة تُسقط القسوة، الصبر هو السوط الذي يجلد نفاذ الصبر، الكلمات اللطيفة تقهر المشاكسة، والإتضاع يطرح الكبرياء أرضاً.
لذلك أيها الأخوة، الشخص الذي يريد أن يغلب الرذائل يجب عليه أن يحارب بأسلحة الحبَّ لا بأسلحة الغضب. الإنسان الحكيم يمكنه أن يرى بسهولة كيف أن تحمُّل الإصابات يُدرب الإنسان على الطريق المسيحي للحياة.
مع ذلك، هناك من يفشلون في فهم أن تنفيذ هذه الوصية هو حقاً علامة القوة، وقمة الصلاح، وذروة التقوى، وخاصية مميزة للمنظر الإلهي لا البشري: لا أن تقاوم الشرير، بل أن تغلب الشر بالخير (رو 12)،
وأن تبارك الشخص الذي يلعن، وأن تحجم عن حرمان الشخص الذي يضربك فرصة ليضربك مرة أخرى، وأن تعطي أيضاً رداءك لذلك الذي أخذ ثوبك، وبذلك تعطي هدية لمن إنتزع غنيمة، وأن تُضيف إلتزاماً بميلين أكثر لمن سخرك ميلاً واحداً. وأن تفعل كل ذلك لكي يأخذ الإستعداد الإرادي أسبقية على الإجبار، ولكي يغلب الحب عدم التقوى، ولكي يتحول الشيء ذاته الذي يفرضه عدوك فضيلة للإنسان الصبور. هذه الأمثلة تعلمنا كيف يتدرب جندي المسيح من خلال الإصابات ويتقوى على ممارسة الفضيلة.
أيها الأخوة، عندما إخترق مرض الخطية والجريمة التي تنبع من الرذيلة وجنون المعصية العقول الإنسانية، وخنق أي معرفة وفهم وتعقل فيها، بغضبه المجنون، جعل الأمم المبعثرة على الأرض أن تهرب من الله وتتبع الشيطان، وأن تعبد المخلوقات، وأن تشجب خالقها،
وأن تشتاق لفعل الرذائل، وأن ترتد عن الفضيلة، وأن تعيش تحت ضغط السيف، وأن تسقط بالجروح. لقد جعلت الأحياء يهلكون بالموت.
النتيجة كانت هذه. أن البشر لا يمكن أن يشفوا إلا بتسليح أنفسهم بكل الصلاح وطول الآناة الذي للطبيب السماوي. هكذا يمكنهم أن يوقفوا إصابات أولئك الذين يعانوا من الجنون، فيصبروا على اللعنات، يتحملوا الضربات، يتم تقطيعهم بالجروح،
حتى يمكنهم أن يقودوا الأشرار نحو رزانة المنظر، وإخلاص الروح، وسلامة العقل. من خلال كل هذا، يتعلم الأشرار أن يلتمسوا الله، ويهربوا من الشياطين، وينتبهوا لعدم مبالاتهم، ويستطيبوا الصحة الروحية، وينزعوا الرذيلة، ويكتسبوا الفضيلة، ويمتنعوا عن التجريح، ويرتدوا عن سفك الدماء، ويرغبوا الإستمرار في الحياة.
لكي نجعل الكلام أكثر وضوحاً، لنستعمل كمثال الأطباء الذين يعالجون أجسامنا. حينما يشتعل مرض الكوليرا في شخص سيء الحظ، ويجعله في حالة إهتياج تحت قوة مفعول الحمى، ألا يتشوش ذكاءه ويبطل عمل عقله؟ ألا يعصف به الغضب وينصرف عنه التصرف الإنساني؟ بإختصار، ألا يعيش جنونه بينما تموت إنسانيته؟
لذلك نجده يصرُّ بأسنانه، يجرح والديه، يخربش أقاربه، يوقع الضربات بقبضته، يواصل بالعضّ ويأذي مرافقيه. بعد ذلك، يُسلّح الطبيب نفسه بالصبر - من أجل مدح مزاياه وتمجيد مهارته وزيادة سمعته الحسنة - ويظهر نفسه محتملاً كل شيء، غير مهتماً بالإصابات، يتحمل العضَّات، يواصل بمجهوده، ويتحمل آلام ليست بخفيفة أبداً من أجل أن يحرِّر مريضه من المعاناة والألم.
يستعمل معه الزيت، يجتهد في علاجه، يُحضر له الدواء، واثقاً أن الرجل المريض عندما يستعيد صحته سوف يدفع له مكافأة على شرف خدماته.
وأنا أسأل، هل هناك جنون أكبر من هذا، أو هل هناك قوة إهتياج أشد من هذه الأفعال: من صفع رجل بار على وجهه، من لكم وجه شخص وديع، من إفساد جمال طلعة هادئة بجعلها سوداء وزرقاء مثيرة للشفقة، من تجريد إنسان من الكساء الوحيد الذي يغطيه، للحصول على بعض الغنيمة التي بلا قيمة، بترك لا شيء لله، لا شي للإنسان، لا شيء للطبيعة، لا شيء للإعتدال، بإبتزاز خدمة من إنسان مثقَّل بمهامه الخاصة، بإعتبار آلام الآخر كأنها تسليته الخاصة؟ !
لذلك أيها الأخوة، إذا كنا نعلم أن أولئك الذين يمارسون مثل هذه الأعمال يعانون من جنون خطير، لنكن مطيعين للمسيح. ومن خلال فضيلة التقوى في كل إمتلائها، لنحتمل العضَّات والضربات والأثقال من إخوتنا المسعورين، لكي نحررهم من مأساتهم، ولكي نحصل على المكافأة الأبدية التي يجلبها لنا الصبر.
لا يجب أن يستنكف خادم من أن يتلقى من زميله الخادم هذا الذي تكرم الرب وتلقاه من الخدم، من أجل خاطر خدامه. إذ لم يمنع وجهه عن كفوفهم. عندما أخذوا ثوبه ورداءه، قدَّم لهم أيضاً جسده.
عندما دفعوه حاملاً صليبه إلى جبل الجلجثة، تبعهم بلطف وبشكل إرادي حتى إلى الموت. لذلك، أيها الأخوة إذا كان الرب قد أعتبر أن من اللائق أن يتألم، فكيف - كيف حقاً - يبدو لنا أن خدامه ليس من اللائق أن يتألمون؟
نحن على خطأ، أيها الأخوة، نحن على خطأ.
الإنسان الذي لا يعمل ما يأمر به الرب،
يأمل باطلاً في ما وعد به الرب.