في تاريخ أوروبا قصتين مؤثرتين جداً ولهما دلالات عميقة. الأولى حدثت في القرن الماضي عام 1936م تنازل ملك إنجلترا إدوارد الثامن عن العرش لأجل حبيبته الأمريكية التي تزوجها. ففي عام 1930 حينما كان أمير ويلز التقى بالأمريكية واليس سيميسون وكانت مطلقة من زوجها الأول وقد تزوجت للمرة الثانية. وبينما هي متزوجة نشأت بينها وبين إدوارد علاقة حب قوية.
وفي عام 1936م توفى جورج الخامس واعتلى إدوارد العرش، وتطلقت سيميسون للمرة الثانية لتتزوج إدوارد، ولكن العائلة المالكة رفضت هذا الزواج. وفي نهاية العام أي في ديسمبر 1936م تنازل عن العرش ليتزوج حبيبته، ومُنح لقب دوق وندسور. وبالفعل تزوجها في يونيو 1937م غصباً عن العائلة، لذلك عاش الزوجان خارج إنجلترا. وكتب سيرته في كتاب بعنوان "قصة الملك" ونُشر عام 1951م. وتوفى في باريس عام 1972م، وتوفيت زوجته عام 1986م. لتكون قصة من قصص الحب التي تحكى على مدار التاريخ الملك الذي تنازل عن العرش للزواج بحبيبته.
والقصة الأخرى حدثت في القرن السادس عشر، شارل الأول الذي توج إمبراطوراً لإسبانيا عام 1516م وظل طيلة حياته في حروب ومؤامرات حتى ضم إلى ملكه إيطاليا والنمسا وهولندا، المكسيك، وألمانيا، وأمريكا الجنوبية، وصارت له إمبراطورية مترامية الأطراف موزعة بين ثلاثة قارات. وبعد الصراع، وبعد الانتصار والدم والمؤامرات، وبعد جلوسه على عرش فوق جثث وأشلاء ودم، وفي قمة النشوة والانتصار شعر بانكسار في روحه، وانطفاء قلبه، انفتحت عينيه على اللاشيء. كما قال جبران: "وراء كل شيء لا شيء".
وشعر بأنه قد تلوث كثيراً بما صنع، وكما قال المتصوف العظيم جلال الدين الرومي: "أيها اللاشيء الثقيل، من أخبرك أن صدري متين، وأن ظهري جدار لا يهد ولا يلين، من أخبرك أن روحي لا يتعكر لونها، وأن قلبي لا يُكسر كجرة طين".
أنها استنارة الرؤية الحقيقية للأشياء، فخلع التاج وتركه وذهب ليقضي باقي أيامه في كوخ صغير على أطراف قرية بجوار أحد الأديرة بلا جاه ولا مال ولا مجد إلى أن مات في هذا المكان الفقير.
والشبه بين القصتين هو التنازل عن العرش، ولكن الأول تنازل لأجل امرأة، والثاني تنازل لأجل استنارة روحه، تنازل لأنه اكتشف حقيقة الأمور الأرضية. ولكن يبقى السؤال لماذا لم يشبع هذا الإمبراطور من العالم؟ وحقيقة الأمور أن الشبع لا يأتي إلا من الروح، والروح لا تشبع إلا من اللـه.
يقول القديس أوغسطينوس: "لقد خلقتنا متجهين إليك يا اللـه لذلك ستظل نفوسنا قلقة حتى تجد راحتها فيك". ويقول ابن الرومي: "أنا عابر سبيل أعبر منك إليك، أنا منك فأعدني إليك، وجدتك في قلبي، ومنذ ذلك الحين وأنا أطوف حولي". ويقول أيضاً: "هناك شمعة في قلبك تنتظر أن تضاء، هناك فراغ في روحك ينتظر أن يملأ، أنك تشعر بذلك أليس كذلك؟
وهذه حقيقة كل البشر فحتى الفلاسفة الذين ظنوا أن الوجود في ذاتهم وأنهم لا يحتاجون إلى الإله لأنه يلغي وجودهم، في أعماق داخلهم شعروا بأنهم لا شيء. ويقول ألبير كامى: "هذه الحياة تستحق الانتحار". ويقول سارتر: "ابن لا أحد أنا". ويقول في روايته "الشيطان واللـه": "أيها الليل الكبير الأزلي ليل التعاسة خبئني، افترس جسدي القذر، ادخل بيني وبين نفسي وتأكلني". ويقول أيضاً: "كل حي يولد دون مبرر، ويستمر عن ضعف، ويموت صدفة".
هذه هي مشاعر كل من لا يجد اللـه بداخله، فإذا لم تسعفه روحه بالالتجاء إلى اللـه يدخل في حالة العدم واللاوجود.
ومشكلة البعض أنهم يتعاملون مع اللـه كفكرة ولا يتصورونه كائناً، يتعاملون مع كلماته ووصاياه على أنها أوامر قضائية حتمية، ولا يتعاملون مع مصدر الكلمات والوحي حياتياً، ولا يمكنهم أن يكون لهم علاقة حقيقية باللـه لأنهم لا يتعاملون معه على مستوى شخصي يتبادلون معه الحب، فتكون الصلاة مجرد فروض وليست علاقة حب وكلمات وحديث مع المحبوب.
ويلجئون في مشاكلهم إلى البشر وذوي النفوذ والجاه لأنهم يرونهم ويشعرون بهم ويثقون في قوتهم، ولكنهم لا يلجئون إلى اللـه لأنهم لا يرونه في قلوبهم، وأرواحهم لا تشعر به لذلك هو غائب في حياتهم، فتظل نفوسهم مظلمة، وأرواحهم جائعة، لأننا مخلوقين لا تشبع أرواحنا إلا بالوجود مع اللـه. وأما من يشعر به ويحبه فإنه يتلذذ بالوجود معه ويستطيع أن يتنازل عن أي شيء لأجله، وتكون له علاقة حقيقية كمثل علاقة الأب بابنه، والحبيب بمحبوبه، وهذا هو الشبع والفرح والسند والقوة.
لذلك يقول داود النبي في مزاميره وتراتيله: "ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب! طوبى للإنسان المتكل عليه. الأغنياء افتقروا وجاعوا، أما الذين يبتغون الرب فلا يعوزهم أي خير" (مز 34: 8-10). ويقول أيضاً: "الساكن في عون العليّ يستريح في ظل إله السماء.. فلا تخشى من خوف الليل، ولا من سهم يطير في النهار. ولا من أمر يسلك في الظلمة" (مز 91: 1، 5).
فالحياة بدون اللـه جوع دائم، وقلق بلا راحة، لأنه إن كان الجسد يشبع بالأمور المادية، والنفس تشبع بالأمور الاجتماعية، فالروح تشبع باللـه. وهذا ما يميزنا أننا مخلوقين نحبه، وبدون حبه نتوه في طريق حياتنا. ويقول أبو المجد أبن آدم السينائي أول الشعراء المتصوفين عام 1131م: "لا تنظر إلى حدود الصور لتدرك حدود المعنى، وأزل حدود الصور لتصير أنت المعنى".
ويقول ابن الرومي: "نحن من طين يوجعنا الأذى، يجرحنا صغير الشوك، ولكن يجبرنا لطف اللـه". لذلك وإن كنا نقدم صوماً ولكننا نشبع روحاً، وإن كنا نحيا الآن على الأرض ولكننا نفكر في بيتنا الأبدي في السماء أيضاً.
مقال القمص/أنجيلوس جرجس
فى جريده الأهرام