أبي الحبيب الطوباوي أبونا مينا الانبا بولا
لقد عشت سني رهبنتك تحمل صلبان ثقيلة، أذكر لقدسك يا أبي في بداية رهبنتك أنك كنت تجهد جسدك وتضنيه في أعمال المحارة بالطفلة لجدران حصن الدير وكافة مباني الدير ومرافقه بملء إرادتك وبفرح دون كلل أو ملل ، ورغم هذه الأتعاب الشديدة كنت ناسكاً قوياً، وكم كنت تلام على نسكك هذا، لدرجة أنك ذات يوم أدعيت أمام مثلث الرحمات الأنبا أغاثون أنك طهيت ملوخية بالأرانب ولما سألك عنها أحضرت طبق به ماء زيتون وقلت له: "أنا أكلت اللحمه وفضلت الملوخية".
وحدث لما أمسيت عليلاً من فرط شدة النسك والتعب في الأعمال المضنية ورغم هذا رفضت أن تذهب لطبيب للعلاج إلى أن أرغموك على النزول إلى مقر الدير بالقاهرة للعلاج، وهناك أيضاً رفضت أن تتناول جرعات العلاج، ووقتئذ نبذت من الدير لأجل نسكك الشديد هذا، إذ أنك بكت الكبير قبل الصغير بتمسكك بتدبيرك وطرق نسكك، وتجسد فيك ما علمنا به معلمنا القديس بولس الرسول الذي كتب إلى تلميذه القديس تيموثاوس في رسالته الثانية إليه يقول:
"٢وَجَمِيعُ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَعِيشُوا بِالتَّقْوَى فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ يُضْطَهَدُونَ." (٢تي ٣: ١٢).
عشت يا أبي بعيداً عن ديرك رغماً عنك في سبيل تمسكك بنسكك حوالي خمس سنوات حبيساً بين جدران حجرتك التي أضحت قلايتك الثانية في عزلة تامة عن الناس حتى عدت إلى ديرك في غضون عام ١٩٨٩ وسط فرحة أخوتك الغامرة بك، وللوقت أستأنفت نسكك الذي لم تبرحه لحيظة من سني رهبنتك يا أبي.
وفيما بعد نظراً لعداوتك الشديدة لجسدك حدث إن وهن وضعف وخفق عن أن يحملك إذ أحتج بشدة على كراهيتك الشديدة وبغضتك له كما لو كنت تأدب أبناً عاق لك بيد أن جسدك يا أبي أعتاد الخضوع لك وأن يكون طوع مشيئتك ورهن إشارتك، ولكنه خفق عن أن يحملك على أقدامه لأنه لم تقوطه بأقل القليل متعللاً بأنك مادمت نائماً ولا تبذل أدنى جهد فلا حاجة لك بالطعام القوي وأشعرتنا ببخلك وشحك على جسدك في الوقت الذي كنت تريد أن تطعم الشهد في أفواه الآخرين.
وطالت رحلة علاجك حتى إضطررت للسفر إلى أميركا لإجراء عملية جراحية دقيقة في الحوض على ما أذكر، وعدت أدراجك إلى سريرك الذي رقدت عليه أكثر من عشرون عاماً في شكر وفرح غير مسبوقين بل منقطعين النظير، ومن على منبرك هذا أعني سريرك خدمت بكلمات بسيطة جداً شباب ورجال كانوا مدخنين بشراهة والبعض منهم كانوا مدمنين لمواد مخدرة مختلفة ولبثت معهم تبكتهم حتى أقلعوا عن التدخين والإدمان وصاروا مدينون لقدسك بخدمتك هذه لهم.
أما بالنسبة لأخوتك الرهبان فحينما كنت تستطيع كنت تقبض بشدة على يد كل أب يأتيك ليفتقدك في قلايتك حتى تستطيع أن تلثم يده مع أنك يا أبي تتفوق عنا جميعاً بسني رهبنتك وجهادك وتعبك ونسكك وما من مرة رأيتك فيها إلا وأحسست أنني قزم القامة وحدثاً صغير العمر والرهبنة أمامك.
إلى أن حانت ساعتك يا أبي التي لا أشك لحيظة أنك كنت تعرفها وخلال فترة انتظارك لرحيلك زرت قدسك بصحبة أبوين فاضلين وقتها لم تشأ أن ترفع الوسادة التي كنت تدفن رأسك فيها وتحدثت إلينا ببعض الكلمات وقتئذ أشار على ضعفي أحد الأبوين المصاحبين لي في زيارتنا له أن أسجل له هذه الكلمات دون علمه وذلك لأنه لم يسبق له أن سمح لأحد أن يصوره أو يسجل له كلمة مطلقاً، واحتفظت بصوتك على تليفوني ككنزاً لي وزاداً روحياً أتزود به بين الفينة والأخرى،
وبعد منتصف ليلة يوم الثلاثاء الموافق ٢٩/٥/٢٠١٨ الذي يوافق عيد ميلادك يا أبي خلعت الجسد الذي طالما أذللته وأخضعته في عبودية قاسية لروحك القوية الجبارة التي اتشحت بالرهبنة شكلاً وحياة.
ورغم آلام فراقك لنا يا أبي إلا أنه حق لنا أن نهنئك ونشترك معك في فرحك بسلامة الوصول إلى الوطن السماوي لتسكنه في فرح وتسبيح بفاديك الذي أحببته بكل قلبك إلى الأبد.
أذكرني يا أبي في صلاتك أمام عرش النعمة حتى الحق بك وآمل أن يكون لقائي بك هناك عاجلاً
ابنك المحب لك
بطرس الانبا بولا