مقال لقداسة البابا شنودة
ما الذي أخذه الله من صومك؟ وما الذي أخذته أنت من الله؟ ماذا أعطيت الله في صومك، وماذا أعطاك؟ هل كان صومك فتره غير عادية في حياتك؟ أيامًا مقدسة شعرت فيها بيقظة روحية تدعوك أن تذوق وتنظر ما أطيب الرب؟ هل اختبرت فيها كيف تسلك حسب الروح وليس حسب الجسد؟
ليس الصوم هو تغيير طعام بطعام.
وليس هو امتناع فتره معينة عن الطعام.. كل هذه مجرد وسائل، ولكنها ليست هي جوهر الصوم. فجوهر الصوم هو انطلاق الروح من مطالب هذا الجسد، لكي يسمو الجسد معها، ويرتفع الإنسان بعيدًا عن ثقل المادة، متجهين معًا في اتجاه واحد هو محبة الله، والتمتع بعشرته. هذا هو الصوم المقدس، أي المخصص لله. ثلاثة أشياء لا بُد أن تخصصها لله في صومك، إن أردت أن تقدس هذا الصوم لله.
في الصوم تخصص القلب و الفكر والإرادة لله.
فلا يكون كل صومك هو انشغال بالأكل والشرب. وإنما امتناعك عن الأكل والشرب، وضبطك فيما تآكل وتشرب، إنما هو تدريب لهذه الإرادة كيف تقوي، ولا تكون قاصرة علي موضوع الطعام فحسب، وإنما إرادتك التي نجحت في السيطرة علي الطعام، تقدم ذاتها لله في كل شيء.
فلا تريد إلا ما يريده الله..
وهذه هي الحكمة من الصوم. أن منع النفس عن الكل، يمتد إلي أن يصير منعًا عامًا عن كل ما يغضب الله.. فلا يكفي أن تمنع نفسك عن الأطعمة الحيوانية، أو عن الكل عمومًا، وتبقي بلا ضابط في خطايا معينة ! إنما في صومك قدم إرادتك لله في كل تصرفاتك وقل له "لتكن لا إرادتي بل إرادتك".
ابحث إذن أين تشرد إرادتك بعيدًا عن الله.
وركز علي هذه النقطة بالذات لكي تنجح فيها، وتقدم لله إرادة صالحة ترضيه وهذا التدريب الذي تسلك فيه أثناء الصوم، سوف يصحبك بعده أيضًا. لأنه من غير المعقول أن تضبط نفسك في البعد عن خطايا معينه أثناء الصوم، ثم تبيح هذا الأمر لنفسك عندما ينتهي الصوم! وإلا فما الذي تكون قد استفدته من صومك؟!
احرص أن يكون الصوم قد غيَّر فيك شيئًا.
لا تأخذ من الصوم مجرد تغيير الطعام، إنما تغيير الحياة إلي أفضل.. تغيير النقائص التي فيك، والضعفات التي تحسها في علاقتك مع الله و الناس. لأنه ماذا تستفيد أن قهرت نفسك خلال خمسة وخمسين يومًا في الصوم الكبير، وخرجت من الصوم كما كنت تمامًا قبله، دون أن تكون علاقة حب مع الله، وعلاقة حب مع الله، وعلاقة ثابت فيه؟!
تأمَّل كَمْ صومًا مرَّ عليك، وأنت كما أنت!
كم هي الأصوام، التي صمتها، منذ أن عرفت الله حتى الآن؟ كم سنة مرت عليك، وفي كل سنة عدد من الأصوام، مع أربعاء وجمعة في كل أسبوع. تأمل لو كنت في كل صوم منها تنجح إرادتك، ولو في الانتصار علي نقطة ضعف معينه حتى تصطلح مع الله فيها وتذوق حلاوة مشيئته.. تري لو سلكت هكذا، كم كنت تري حصاد حياتك وفيرًا في الروحيات، وكم كانت علاقتك بالله تزيد وتتعمق...
لا تأخذ من الصوم شكلياته، بل ادخل إلي العمق.
فليس الصوم مجرد شكليات ورسميات، ولا هو مجرد فروض أو طقوس، إنما هو نعمة أعطت لنا من الله، ونظمتها الكنيسة لخيرنا الروحي. لأجل تنشيط أرواحنا، وتذكيرنا بالمثالية التي ينبغي أن نسلك فيها، وتدريبنا علي "القداسة التي بدونها لا يعاين أحد الرب" (عب 12: 14).
الصوم إذن فترة مقدسة مثالية غير عادية.
يحتاج إلي تدبير روحي من نوع خاص يتفق مع قدسيتها. حالمًا يبدأ الصوم نشعر أننا دخلنا في حياة لها سموها، وفي أيام غير عادية نتدرب فيها علي حياة الكمال. ولذلك لا يجوز أن تمر علينا شأنها كباقي الأيام... إنها صفحة جديدة في علاقتنا مع الله، ندخلها بشعور جديد وبروح جديدة.. حقًا إن كل أيام حياتنا ينبغي أن تكون مقدسة. ولكن فترة الصوم هي أيام مقدسة غير عادية. وإن سلكنا فيها حسنًا، سنصل غلي قدسية الحياة كلها.. إنها فتره نتفرغ فيها لله علي قدر إمكاننا، ونعمق علاقتنا به.
هل سمعتم عن الصوم الذي يخرج الشياطين؟
وكيف قال الرب عن الشياطين "هذا الجنس لا يخرج إلا بالصلاة والصوم" (مت 17: 21). فأي صوم هذا الذي لا تستطيع الشياطين أن تحتمله فتخرج؟ أهو مجرد الامتناع عن الطعام؟ كلا بلا شك. بل إنها العلاقة القوية التي تربط الصائم بالله، هذه التي لا يحتملها الشيطان.. الدالة التي بين الإنسان والله، دالة الحب وصلة الروح التي حرم منها الشيطان، ما أن يراها حتى يتعب ويذهب.. القلب الملتصق بالله في الصوم، هذا يراه الشيطان فيهرب.
فهل قلبك ملتصق بالله في الصوم؟
هل تعطيه قلبك كما تعطيه إرادتك؟ وهل تشعر بحبه أثناء الصوم؟ هل هذا الحب طابع واضح في صلواتك وتأملاتك أثناء الصوم؟ وهل من أجل محبته نسيت طعامك وشرابك، ولم تعد تهتم بشيء من هذا؟
وكأنك تقول لجسدك أثناء صومك:
أنا لست متفرغًا لك الآن. أكلت أو لم تأكل، هذا موضوع لم يعد يشغلني أو يهمني... "لكل شيء تحت السموات وقت". وليس هذا هو وقتك.. أنا الآن مشغول بعمل روحي مع الله. فتعال اشترك معنا، أن أردت أن يكون لك كيان في هذا الصوم. أما الطعام فليس الآن مجاله. طعامي الآن هو كل كلمة تخرج من فم الله. هذه هي مشاعر من يقول في صومه مع القديس يوحنا الرائي:
كنت في الروح في يوم الرب (رؤ 1: 10).
ولا شك أن يوم الصوم هو يوم للرب. فهل أنت "في الروح" أثناء صومك؟ هل نسيت جسدك تمامًا بكل ماله من رغبات ومطالب واحتياجات، وفضلت أن تحيا في الروح خلال فترة الصوم؟ ليس للجسد عندك سوي الضروريات التي لا قيام له بدونها.. وكأنك تقول مع بولس الرسول "في الجسد أم خارج الجسد، ليست أعلم. الله يعلم" (2 كو 12: 3).
هل يكون فكرك منشغلًا بالله في صومك؟
في أثناء القداس الإلهي ينادي الأب الكاهن قائلًا "أين هي عقولكم"؟ ويجيب الشعب "هي عند الرب". وأنا أريد أن أسأل نفس السؤال أثناء الصوم "أين هي عقولكم"؟ أتستطيع أن تجيب "هي عند الرب"؟ أليس الصوم فترة مقدسة لله، مخصصة له، يجب فيها أن ينشغل الفكر بالله وحده؟ افحص يا أخي نفسك، وأبحث عن أفكارك أين هي أثناء الصوم.
هل مشاغل الدنيا تملأ فكرك أثناء الصوم؟
فأنت في دوامه العمل، وفي دوامة الأخبار، وفي دوامة الأحاديث مع الناس، لا تجد وقتًا لله تعطيه فيه فكرك! وربما تصوم حتى الغروب، وفكرك ليس مع الله، قد أرهقه الجولان في الأرض والتمشي فيها..! وربما تفكر في التافهات، وتتكلم عن التافهات، والله ليس علي فكرك، ولا تذكره إلا حينما تجلس لتآكل، فنصلي قبل الأكل، وتذكر الله وتذكر انك كنت صائمًا! هل هذا صوم روحي يريح ضميرك؟! ليتك إذن تذكر قول داود النبي:
جعلت الرب أمامي في كل حين.
هو أمامي في كل عمل أعمله، وفي كل كلمة أقولها. إنه شاهد علي كل شيء. وأيضًا جعلته أمامي لأنه هدفي الذي لا أريد أن أتحوَّل عنه لحظه واحدة وهو أمامي لأنني من أجله وحده أصوم لكي لا أنشغل عنه بل اجعله أمامي كل حين.. أن كنت في الأيام العادية، ينبغي أن تضع الله أمامك في كل حين، فكم بالأكثر في فترات الصوم التي هي مخصصة لله ومقدسة له؟
إن كان الله ليس علي فكرك، فلست صائمًا.
يوم الصوم الذي لا تفكر فيه في الله، اشطبه من أيام صومك، إنه لا يمكن أن يدخل تحت عنوان "قدسوا صومًا".. ولكن لعل البعض يسأل: كيف يمكنني تنفيذ هذا الأمر، وأنا أعيش في العالم، ولي مسئوليات كثيرة ينبغي أن أفكر فيها؟
إذن احفظ التوازن، وأمامك ثلاث قواعد:
لا تجعل مسئولياتك تطغي، بحيث تستقطب كل أفكارك، ولا تبقي في ذهنك موضعًا لله.. أجعل لمسئولياتك حدودًا، وأعط لربك مجالًا.-
كل فكر لا يرضي الله أبعده عنك، فهو لا يتفق مع المجال القدسي الذي تعيش فيه.
وكما يقول القديس بولس الرسول "مستأسرين كل فكر لطاعة المسيح" (2 كو 10: 5). لذلك لا تنجس صومك بفكر خاطئ. فالفكر الذي يطيع المسيح استبقه معك، والذي لا يطيع اطرده عنك.
أشرك الله معك في أفكارك، وفي أهداف أفكارك. وقل:
أنا من أجل الله أفكر في هذا الموضوع.
أنت تفكر في مسئولياتك. حسنًا تفعل. ولكن لا تجعلها منفصلة عن الله. الله هو الذي أعطاك هذه المسئوليات. وأنت من أجل تفكر فيها. ولا يكون فكرك فيها منفصلًا عن الله.. من أجل الله تفكر في شئون عملك. ومن أجله تفكر في دروسك ومذكراتك. ومن اجله تفكر في خدمتك وفي مسئوليتك العائلية. بشرط أن هذا التفكير كله لا يبعدك عن الله الذي هو الأصل والأساس. فكر في مسئولياتك العائلية. بشرط أن هذا التفكير كله لا يبعد عن الله الذي هو الأصل والأساس. فكر في مسئولياتك. وقل للرب أثناء ذلك:
اشترك في العمل مع عبيدك.
طالب مثلًا يذاكر أثناء الصيام. والله يشترك معه. هو يذاكر والله يعطيه الفهم، ويثبت المعلومات في ذهنه وفي ذاكرته. وهذا التلميذ يقول للرب "أنا يا رب لا أستطيع أن أفهم من ذاتي. أنت تجلس معي وتفهمني، وأشكرك بعد ذلك لأنك كنت معي.. وأنا أذاكر يا رب، ليس من أجل العلم، ولا من أجل مستقبلي، إنما من أجلك أنت، لكي يعرف الكل أن أولادك ناجحون، وأن كل عمل يقومون به يكونون أمناء فيه، ويكون الرب معهم ويأخذ بيدهم، فيحبك الناس بسببهم..." تقول لله: من أجلك آكل، ومن أجلك أصوم.
من أجلك آكل، لكي آخذ قوة أقف بها في الصلاة، وأسهر بها في التأمل، وأخدم بها أولادك، ويأخذ بها الناس فكرة أن أولادك أمناء في عملهم وأنا أصوم، لكي يمكن لروحي أن تلتصق بك دون عائق من الجسد. هكذا تكون في الصوم مع الله في كل عمل تعمله.
وتدخل في شركة مع المسيح الذي صام.
تشترك معه في الصوم، علي قدر ما تستطيع طبيعتك الضعيفة أن تحتمل. هو صام عنك، فعلي الأقل تصوم عن نفسك. وهو قد رفض هذا الخبز المادي، وأنت تشترك معه في رفض هذا الطعام البائد. وهو كان يتغذي بحبه للآب وعشرته معه، وأنت أيضًا تكون كذلك. وهو انتصر علي الشيطان أثناء صومه، وأنت تطلب إليه أن يقودك في موكب نصرته..
وبهذا يكون الصوم فترة غذاء روحي لك.
أخطر ما يُتْعِب البعض في الصوم، أن يكون الجسد لا يتغذى و الروح أيضًا لا تتغذي وهذا الوضع يجعل الصوم فترة حرمان أو تعذيب، وليس هذا هو المعني الروحي للصوم. بل إن هذا الحرمان يعطي صورة قاتمة للصوم، إذ يقتصر علي حرمان الجسد (سلبيًا) ويترك غذاء الروح من الناحية الإيجابية.
وغذاء الروح معروف وهو:
الصلاة، والتأمل، وقراءة الكتاب المقدس، وكل القراءات الروحية كأقوال الآباء وسير القديسين، والألحان والتسابيح، والاجتماعات والأحاديث الروحية والمطانيات metanoia..، وما أشبه. وغذاء الروح يشمل أيضًا المشاعر الروحية، ومحبة الله التي تتغذي بها الروح وكل أخبار الأبدية..
والروح إذا تغذي، تستطيع أن تحمل الجسد.
وهذا نراه واضحًا جدًا في أسبوع الآلام، إذ تكون درجة النسك فيه شديدة وفترة الانقطاع طويلة. ولكن الجسد يحتمل دون تعب، بسبب الغذاء التي تأخذه الروح خلال هذا الأسبوع من ذكريات آلام المسيح، ومن القراءات والألحان والطقوس الخاصة بالبصخة، وتركيز العقل في الرب وآلامه.. وكثيرًا ما يقرأ الإنسان، ويشبع بالقراءة ولذتها، ويحين موعد الطعام، فلا يجد رغبة في أن يكمل القراءة. لأن الروح تغذت فحملت الجسد فلم يشعر بجوع.. إذن أعط الروح غذاءها أثناء الصوم. وكن واثقًا إن غذاء الروح سيعطي الجسد قوة يحتمل بها الصوم. كما أن صوم الجسد يعطي عمل الروح قوة إذ يكون عملا روحيًا بزهد الجسد وزهد الفكر. ولذلك نجد:
صلوات الصوم أعمق، وقداسات الصوم أعمق.
هي صلوات خارجة من جسد صائم قد أسلم قيادته للروح. وهي صلوات خارجه من قلب صائم عن الماديات، ومن روح صائمة عن كل شهوة عالمية. لذلك تكون صلاة قوية. كصلوات الليل ونصف الليل التي يصليها الإنسان بجسد خفيف بعيد عن الأكل. آباؤنا في أصوامهم كانوا يهتمون بعمل الروح. فماذا عن أكلهم؟
كانوا أيضًا في تناول الطعام يهتمون بعمل الروح.
وذلك أنهم كانوا يكلفون واحدًا منهم يقرأ لهم شيئًا من سير القديسين وأقوال الآباء أثناء تناولهم للطعام، حتى لا ينشغلون بالأكل المادي ولا يتفرغون له، وحتى يكون لهم غذاؤهم الروحي أيضًا أثناء تناولهم غذاء الجسد. وهكذا تعودوا عدم التفرغ لعمل الجسد، وتعودوا سيطرة الروح علي كل عمل من أعمال الجسد. هناك وصايا تأمر بالصوم. ولكن آباءنا لم يصوموا بسبب الأمر.
لم يصوموا طاعة للوصية، إنما محبة للوصية.
الطاعة درجة المبتدئين، ولكن الحب هو درجة الناضجين والكاملين. وآباؤنا لم يكن الصوم بالنسبة إليهم أمرًا ولا فرضًا ولا طقسًا، إنما كان لذة روحية، وجدوا فيها شبعًا، ووجدوا فيها راحة نفوسهم وأجسادهم.
وفي الصوم لم يقف آباؤنا عند حدود طاعة الوصية، وإنما دخلوا في روحانية الوصية..
وروحانية الوصية الخاصة بالصوم هو لخيرنا، ولولا ذلك ما أمرنا الله بالصوم