في عظةٍ للقديس يوحنا ذهبي الفم (354-407م) عـن الصوم، ألقاها في السنوات ما بين عـام 386-397م قبـل سـيامتـه بطريـركاً للقسطنطينية، يقول:
[لاحِظ أنه مـن البدء، عندما خَلَق الله الإنسانَ، وضعه مباشرةً بين ”يدَي“ الصوم، ذلك الصوم الذي كان كمثل أُمٍّ حنون ومُعلِّمة صالحة تهتم بخلاصه، لأن الوصية كانت هكذا: «مِنْ جَمِيعِ شَجَرِ الْجَنَّةِ تَأْكُلُ أَكْلاً، وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتاً تَمُوتُ» (تك 2: 17،16). كانت هـذه الوصية ”نوعاً“ من الصوم.
فإن كـان الصوم ضرورياً في الفردوس، فبالأكثر جـداً يكـون ضرورياً خارج الفردوس. وإذا كان الدواء قبل ”الجرح“ مُفيداً، فبالأكثر جداً (يكون) بعد ”الجرح“... فلو أدرك آدم هذا الكلام، لَما سمع الكلام الآخر الذي قاله الله: «لأَنَّكَ تُرَابٌ، وَإِلَى تُرَابٍ تَعُودُ» (تك 3: 19). لكـن بسبب أنـه خالَف القول الأول، لذلك أتى الموت وما ترتَّب على ذلك من همومٍ ومتاعب ومشقَّات. هكـذا أتت الأشـواك والزوان، هكـذا أتت العذابـات والآلام والحياة البائسة].
الصوم والتوبة:
ولنا في قصة أهل نينوى عِبْرةٌ ومثالٌ، كيف أنَّ توبة أهل نينوى وصومهم، بعد سماعهم إنذار الرب على فم نبيِّه يونان، قد رَفَعَت حُكْم الله الذي أنذرهم بـه بعد أن صعدت شرورهم أمام الرب الإله. فبعد أن بلغ إنـذار الله مسامعَ ملك نينوى، «قَامَ عَنْ كُرْسِيِّهِ وَخَلَعَ رِدَاءَهُ عَنْهُ، وَتَغَطَّى بِمِسْحٍ وَجَلَسَ عَلَى الرَّمَادِ. وَنُودِيَ وَقِيلَ فِي نِينَوَى عَنْ أَمَرِ الْمَلِكِ وَعُظَمَائِهِ قَائِـلاً: ”لاَ تَذُقِ النَّاسُ وَلاَ الْبَهَائِمُ وَلاَ الْبَقَـرُ وَلاَ الْغَنَمُ شَيْئاً. لاَ تَـرْعَ وَلاَ تَشْرَبْ مَـاءً. وَلِيَتَغَطَّ بِمُسُـوحٍ النَّاسُ وَالْبَهَائِمُ، وَيَصْرُخُوا إِلَى اللهِ بِشِدَّةٍ، وَيَرْجِعُوا كُلُّ وَاحِدٍ عَنْ طَرِيقِهِ الرَّدِيئَةِ وَعَنِ الظُّلْمِ الَّذِي فِي أَيْدِيهِمْ، لَِعَلَّ اللهَ يَعُودُ وَيَنْدَمُ وَيَرْجِعُ عَـنْ حُمُوِّ غَضَبِهِ فَلاَ نَهْلِكَ“» (يونان 3: 6-9).
ويُعلِّق القديس يوحنا ذهبي الفم، على توبـة أهل نينوى، في عظته السالفة الذِّكْر، قائلاً:
[إن كنتَ قد رأيتَ كيف أنَّ الله لم يُسرَّ باحتقارنا الصوم؛ فتعلَّم الآن كيف تبتهج، بإكرام الصوم. لأنه كما أنه باحتقار الصوم أتت عقوبة الموت؛ هكذا أيضاً، عندما نُكرمه تُرفَع العقوبة... ولأن الله أراد أن يُظهِر لك قوَّة الصوم، نجده بعد أن أدان آدم على تعدِّيه وعدم ”صومه“، كما قلنا؛ قد جعل الصوم ”طريقاً“ للسائرين نحو الموت كي يعودوا مرَّةً أخرى إلى الحياة. وهـذا لم يفعله لا باثنين أو ثلاثـة أو عشرين مـن البشر لكن بمدينةٍ كاملة، مدينـة نينوى العظيمة والعجيبة، التي ركعت وتذلَّلت بسبب الدمـار المزمِـع أن يُصيبها من جراء العقاب الإلهي. فجاء الصوم (الذي مارسته) كمثل قـوَّةٍ رفعتها إلى أعلى، واختطفتها مـن قبضـة الموت، وردَّتهـا إلى الحياة...
ولأيِّ سببٍ منحهم الله (أي لأهـل نينوى) فرصةً قصيرة؟ نُجيب: لكي تَعْلَم أنَّ الغرباء (أهـل نينوى) يستطيعون في هـذه المـدَّة أن يُطفئوا غضباً عظيماً، سبَّبته خطايـاهم؛ وأيضاً لكي نثق نحـن ونتيقَّن مـن محبـة الله للبشر، وحتى لا تيـأس أنت يـا مَـن فعلـتَ آلاف الخطايـا. لأنـه إذا أعطيتَ الكسـول وغـير المُبالي، مهلةً كبـيرة للتوبـة، فإنـه سـوف لا يفعل شيئاً، وسوف لا يتصالح مع الله بسبب إهماله وتهاونه؛ بينما الإنسان النشط واليقظ، لـو أعطيته فترةً زمنيةً قصيرة جدّاً، سوف يستطيع أن يَنْعَم بغفران خطايا ارتكبها في سنين عديدة].