وداعة المسيحى
"باركوا الذين يضطهدونكم باركوا لا تلعنوا" (رومية14:12)
وعليه بارك أيها المسيحي من يضطهدك! وإذا احتقرك أحد فاذكر أنّك من التراب والى التراب تعود. فإنك إن حصّنت نفسك بمثل هذه الأفكار تجد كلّ عار أصغر من الحقيقة.
وعلى هذه الصورة لا تدعْ مجالاً لانتقام العدو لعدم اكتراثك لاضطهاده، وتحصل على الأكاليل بصبرك، وتحوّل جنون غيرك إلى أسباب تعود إلى حكمتك الخاصة.
لا تزِد حرفاً واحداً من نفسك على كلام قريبك الذي يشينك، إذا قال قريبك أنك عديم الشرف فلا معنى لقوله أبداً. فاذكر أنّك تراب ورماد.
وإن قال الآخر أنك جاهل فقير وغير مهذب فقلْ بلسان القديس مرنم المزامير:
أنا دودة صغيرة ومصيري إلى الفساد.
وإن حملتْك التجربة على شتم أخيك بالمسيح فتصوّر أنّ زمام أمرك في يدك إن شئت. فإما أن تقترب إلى الله بالصبر وطول الأناة أو تستسلم لعدوك بالحماقة والغضب.
فلا تتسرع بل فكّر جيداً حتى تختار الأفضل وتكون مثالاً بالوداعة لعدوك فينتفع منك. فهل من شيء أنفع له كرؤيته عدوه أعلى وأرفع من كل إهانة؟
إن من يضرب إنساناً لا يشعر بالألم يقاصص نفسه لأنه بهذا لا ينتقم من عدوه ولا يسكّن حدة غضبه. ومثله الذي يوبخ إنساناً لا يؤثّر الكلام فيه.
فهو لا يروي حدته بل على العكس يكاد قلبه يتمزق من الغضب وإن لم تبادر إلى إهانة عدوك، فسرعان ما يقول الحاضرون:
إنه قادح سفيه، وأنك كبير النفس. إنه شرس احمق، وأنك طويل الأناة ووديع فيندم على قوله. أما أنت فلا يمكن أن تندم على الفضيلة أبداً.
أما إذا كنت تقابل الإهانة بالإهانة انتقاماً من عدوك، فبماذا تبرر نفسك؟
أتقول أنه أغاظك وهو الذي ابتدأ الخصام؟ فهل يستوجب قولك هذه المعذرة والصفح؟ إن الزاني الذي يرمي الذنب على الزانية لأنها هي التي أغوته وجرّته إلى الإثم، لا يخفف اعتذاره هذا شيئاً من دينونته.
فلا أكاليل من دون جهاد ومقاومة ولا انتصار بلا أعداء! فإذا غضب عدوك منك، فيحق له هذا الغضب لأنه لم يرَ مثالاً صالحاً حكيماً فيك!
إنك ترى قبح منظر الغضوب ولا تحترس من تقليده والتشبه به، بل بالعكس تحذو حذوه وتتخذ حدتك عذراً لك، فعملك هذا يوقع الذنب عليك ويبرر عدوك.
فإذا كانت الحدة رديئة، فلماذا لا تبتعد عنها؟ وإذا كانت تستوجب التساهل والمسامحة فلماذا تغضب ممن أغاظك؟ إن القول أنك ليس بأول منتقم، لا ينفعك.
فالفائز بإكليل الظفر هو المتغلب لا من بدأ بالقتال. وعليه لا يؤاخذ البادي بالشر وحده بل الذي يتبع إثم القائد الشرير.
فإذا عيّرك عدوك بأنك فقير، فاعتبر كلامه صدقاً إن كان فقرك حقيقياً، وإن كان قوله كذباً، فما لك وله!
ولا تفتخر بالثناء الذي هو أكثر مما تستحق، ولا تحزن من إهانة لا تخصّك!
ألا ترى أن السهام تخترق عادة الأجسام القوية العنيدة، وتضيع قوتها السامة في الأجسام اللينة المطاوعة، هكذا الشتائم تشبه ما ذكرنا، فإنها تقع على من يقاومها، ويلين شرها على من يطاوعها.
إنك إن غضبت تثبت الشتائم لنفسك، وإن لم تغضب تسبب العار للمعتدين عليك.
فبمثل هذه الحالة النفسية الحكيمة تهدّىء اضطراب قلبك وثورانه وتسكن أفكارك. لنترك الغضب حتى في التجارب ولو كان آتياً من السماء لأجل الفساد البشري والكذب!
إذا كنا نستأصل جذور الغضب المرّة بالتعقل والحكمة نتغلب على قبائح كثيرة في بدء ظهورها: كالخداع والريبة والكفر والأخلاق السيئة والنيات الرديئة والوقاحة وكل ما يشبه هذا من الآثام المتفرّعة عن خطيئة الغضب.
فلا تعطِ سبيلاً للشيطان ليقترب منك ويسد الطريق لدخول الروح القدس إلى نفسك لأنه حيث تكون العداوة والغيرة والغضب لا يكون روح الوداعة.
لكن، إذا تبعنا وصية الرسول القديس نطرح من نفوسنا كل غضب وحدّة وشر ونتساهل، بعضنا مع بعض،
منتظرين الغبطة الموعود بها الودعاء.
فطوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض
كما قال سيدنا يسوع المسيح الذي له المجد والملك إلى دهر الداهرين آمين.