ان الله عندما خلقنا وهبنا ملَكَة الكلام حتى نبادل بعضنا بعضاً أفكار قلوبنا وحتى يشاطر كلّ منا قريبه بهذه المبادلة مظهرين للنور ما نبطنه في القلب من أفكار وكأنه كنز من الكنوز. فلو كنّا، لعمري، أرواحاً مجرّدة لا تتصل الواحد منا بالآخر مباشرة، ولكن بما أن نفوسنا متلبّسة بكثافة الجسد، فانها تولّد أفكاراً تفتقر إلى الجُمَل والتعابير لتفصح عن المكنون في داخلتها. وحينما يستعير فكرنا نبرات صوتية للإفصاح عن مكنوناته فهو يعبر الهواء،
محمولاً في الكلام، كأنما على قارب، ويصل من القارئ إلى أُذن السامع. فإن لقي ثمة هدوءاً وسكوناً عميقاً، رسا في آذان المستمعين كما يرسو الزورق في المرافئ الآمنة. ولكن إذا هبّت دونه جلبة السامعين كزوبعة هوجاء، فانه يضيع في الهواء. إذن، فليخيّم الهدوء، بصمتكم، عند كلامي، فلربما بدا لكم شيء نافع وجدير بالحفظ.
كلام الحق عسير التناول ولذا، فهو يفرّ بسهولة من الغافلين. فالروح المدبّر قد أوضح بكلمات قليلة ومقتضبة معاني جمّة، كي تَعْلَق بالذاكرة بسبب إيجازها. فانه من شرط بليغ الكلام أن لا تختفي معانيه بالعبارات أو تزدان بالألفاظ النافلة فتشبه الأثواب الفضفاضة. وأما الآية التي تُليت عليكم، منذ برهة، من سفر موسى فلا شك أنكم تذكرونها جميعاً لأنكم تنصتون بإصغاء، هذا إن لم تكن قد تاهت عن آذانكم لأجل قصرها. وهذه الآية. هي: “راقب نفسك، كي لا يكون إثماً الفكر المخفي في قلبك” (1).
اننا، نحن البشر، محمولون على ارتكاب الإثم في فكرنا. لذلك فالذي جبَلَ وحدة قلوبنا، والذي يعلم أن أكثر خطايانا ينجم عن فكرنا، ويتم بالنية، قد حذّرنا أولاً أن نضبط عقولنا بطهارة كلية. اننا نقترف الإثم بسهولة تامة، وهذا ما يستدعي قسطاً وافراً من الانتباه والسهر. فكما ان أطباء الأجسام المتيقظين يشدّدون ضعفاء البنية، ويتلافون الطوارئ بحمية واقية، كذا هو طبيب النفوس الحقيقي، الذي يرى الجميع بنظره ويعرف أننا سريعو الزلل، قد سبق فحذّرنا من الإثم باحترازات جدّ قوية، لأن أعمال الجسد تقتضي، حتى تتمّ، زماناً ومشقة وفرصة ملائمة وعوناً من سائر الأعضاء، إلى غير ما هنالك، وأمّا خطرات الفكر فتتولّد فوراً وتحدث بلا جهد وتتمّ بلا صعوبة وكل وقت يوافقها.
لا يندر أبداً أن نرى، بعضاً من المغرورين بذواتهم لكرم أخلاقهم، السادلين نقاب التواضع على ظاهرهم، ينجذبون -وهم جالسون وسط من يشيدون بمناقبهم- بفكرهم نحو الخطيئة، بخفقة قلب خفيّة، فينظرون بخيالهم موضوع أشواقهم ويتصوّرون علاقات أو أحاديث أثيمة. وفي الداخل، وعلى مسرح قلبهم السريّ، بعد أن يصوّروا اللذة في داخلهم بكل جلاء، يقترفون الإثم دون أن يرى رقيب أو بصير “إلى أن يأتي الذي سينير خفايا الظلام، ويوضح أفكار القلوب” (2).
فاحذر إذن “كي لا يكون الفكر المخفي في قلبك إثماً” لـ “أن كل من نظر إلى امرأة لكي يشتهيها فقد زنى بها في قلبه” (3). ومن حيث أن أعمال الجسد تلاقي في وجهها العقبات الجمّة، في حين أنّ من يخطئ بالشوق يرتكب إثمه بسرعة توازي سرعة الفكر، لذلك أعطانا الله، عزّ وجلّ، دواءً واقياً وسريع الفعالية إذ شهد وقال: احذر أن يكون إثماً الفكر المخفي في قلبك (4).
ولكن الأوْلى بنا أن نعود إلى ما قدّمنا به كلامنا في مستهل هذا الخطاب. يقول كتاب الله العزيز: “تأمّل ذاتك”. ان كل حيوان يدبّ على وجه الأرض له بين يديه، من جودة الإله الذي سوّاه، جميع المبادئ الضرورية لصيانة كيانه وحفظه. واذا أنعمت النظر تتحقق أن السواد الأعظم من البهائم يحجم غريزيّاً مبتعداً عن كل ما يضرّه ويؤول عليه بالوبال، و يميل بالعكس، بارتياح شديد إلى الاستمتاع بكل ما يعود عليه بالنفع والفائدة. لذلك، فالله تعالى الذي أخذ على عاتقه إرشادنا، قد أعطانا هذه الأمثولة الجليلة، بمعنى أن ما تأتيه هذه الكائنات بدافع الغريزة، نأتيه نحن بإرشاد العقل وتحت إشرافه وحتى أن ما يتيسّر لها بلا فطنة ولا مشقّة، يتيسّر لنا نحن بأعمال الفكر وإجهاد الدماغ، وحتى نحافظ أيضاً بحرص على ما غرسه الله فينا من الملكات والمبادئ، معرضين عن الإثم كما ان البهائم تعرض عن العلائف السامّة، تائقين هياماً إلى البر، كما ان هذه تتوق إلى المراعي الخصيبة اليانعة. تأمل إذن ذاتك حتى تكون جديراً بأن تميّز بين ما يجلب لك الضرر ويوردك التهلكة وبين ما يقودك إلى الخلاص والنجاة.
ولكن بما أن النظر في الذات يأتي على وجهين الأول ويُراد به التحديق بالعيون الجسدية إلى الأشياء المنظورة، والثاني هو عبارة عن توجيه البصيرة، بقوى النفس الروحية إلى التبحّر في الأشياء التي جسّد لها، فان زعمنا ان هذه الوصية ملقاة على العينين لبرهنّا حالاً وسريعاً أنها فوق الطاقة، لأنه كيف يمكن لأحد أن يشمل ببصره كل كيانه؟ لأن العين لا يمكنها أن ترى نفسها. فهي لا تمتد إلى الهامة ولا تعرف ما هو الظهر وما شكل المحيّا، ولاكيفيّة تنسيق الأحشاء في الداخل. فيكون من الكفر إذن أن نقول ان شرائع الروح القدس مستحيلة وفوق الطاقة.
بقي الآن أن نفهم ما تتضمنه هذه الوصية باعتبار أنها موجّهة إلى الروح. “تأمّل نفسك” أعني راقبها من جميع الأنحاء، ولتكن بصيرة نفسك يقظى لتتعهدك بالسهر. “انك تجوز وسط الفخاخ” (5) والعدو قد نصب الحبائل، مخفية تحت الثرى، ومدّها لك من كل صوب وجهة. فارْعِ نظرك إذن إلى كل شيء حتى “تخلص مثل الظبي من الأشراك ومثل العصفور من الحبائل” (6). فانه لا سبيل إلى قنص الظبي بالأشراك لحدّة بصره. وأما العصفور، فلخفّة جناحيه، يرتفع إلى علو شاهق يجعله بمأمن من مطامع الصيادين، اللّهم إذا أخذ حذره وانتبه لذاته. فاحذر أن تبدو أقل سهراً على ذاتك من سائر العجماوات، خشية انك إذا ما عثرت في هذه الحبائل، تغدو فريسة الشيطان “عبده وطوع مشيئته” (7).
“تأمل ذاتك” أعني لاحظ لا ما هو بين يديك، أو حواليك، لكن لاحظ ذاتك فقط. لأننا نحن شيء، وما هو تحت حوزتنا أو يحيط بنا شيء آخر، فنحن على مثال خالقنا فُطرنا من نفس وروح. ما نملكه هو الجسد وحواسّه، وما يحيط بنا فهي الأموال والأشغال وسائر حاجيات الحياة. فما معنى هذه الآية إذن؟ معناها ان استخفّ بالجسد ولا تبالِ به، ولا تجدّ في طلب ما يطيب له، من صحة كان أم من جمال أم من طول عمر. ولا تعلّله بلذائذ الشهوات. ولا يغرنَّكَ النّضار والمجد والعظمة والجبروت. ولا تأبه كثيراً لأمور جعلت لخدمة حياة زائلة، فتستعظم شأنها، ولا تهمل انصبابك عليها، نفسك التي تخصّك دون سواها. لكن “راقب ذاتك” لا غير. زيِّنها واعتنِ بها، وامحُ عنك بدأبك، كل شرّ لطخها الإثم به، وكل وصمة لوَّثتها بها الخطيئة. لا بل حاول أن توشِّيها لتتلألأ بهاء، وتتدفّق بنور الفضيلة وسناها. ادرس ذاتك مَن أنت يا ترى، واعرف ما هو جوهرك. ان جسدك هو رهن الفناء، وأما نفسك فهي بنت الخلود. واعلم أن لنا حياتين: حياة جسدية سريعة الزوال، وحياة أخرى روحية لا تعقبها نهاية، ولا يعتريها فناء.
لاحظ ذاتك ولا تتعلّق بالزائلات على أنها خالدة. ولا تعبث بالخالدات على أنها هدف لصروف الزمان وتقلّبات الدهر. استخِفّ بالجسد فهو سريع الزوال. وعليك بنفسك، اعتنِ بها فهي لعمري الخالدة دون سواها. اعرف ذاتك بكل دقة ووضوح حتى تعلم كيف تمنح لكلّ ما يفيده، فللجسد القوت واللباس، وللنفس تعاليم البرّ والسيرة الصالحة والانقطاع إلى الفضيلة وتقويم ما اعوجّ من الأهواء. لا ترفّه الجسد ولا تسعَ بافراط وراء التخمة “لأن الجسد يشتهي ما هو ضد الروح، وكلاهما يقاوم الواحد الآخر (8)، فاحذر أن يعلق حبّ الجسد في فؤادك فينشغف به ويتولى ما هو أحطّ قدراً ومنزلة زمام السيادة والسلطان. انه كما يجرى الأمر في كفَّتي الميزان، إن ثقلت كفَّةٌ أضحت الثانية بالفعل ذاته دونها وزناً، كذلك شأن الجسد مع الروح، فشَبَع الواحد هو حتماً فاقة عند الآخر. ان رتَعَ الجسد على أسرّة الملذّات وتهدّل من فرط السمنة فلا بدّ للروح عندئذٍ من أن تضمر ويحلّ بها السقام.
إن هذه الوصية بعينها تلائم ضعاف البنية وأقوياءها. فالأطباء يفرضون على السقماء عندما تحلّ بهم الأمراض أن يهتموا أنفسهم بذواتهم، وأن لا يهملوا ما يمكنه أن يعود عليهم بالنجاعة. كذلك “الكلمة” الذي هو طبيب نفوسنا الحقيقي يشفي النفس التي لوّثتها الخطيئة بفضل هذه المعونة المتواضعة. “اعرف نفسك” حتى توفّق بين نوعية إثمك وكيفيّة مداواته. فإن كان عظيماً مميتاً، فأنت بحاجة ماسّة الى اعتراف جدّي، وعبرات مرّة، واسهار متواصلة، وأصوام لا تنقطع. وان كانت زلّتك عرضية فلتعادلها توبتك. فقط “اعرف ذاتك” لتدرك إن كنت سليم النفس أم عليلها، لأن كثيرين من المعترين بأسقام عضالة فتّاكة، لا يعرفون البتة أنهم مرضى، لعلّة تغافلهم وقلّة اهتمامهم. فعظيمة، إذن، تلك الفائدة التي يجتنيها أصحّاء الأبدان من هذه الوصية، في أيّة حالة كانوا، فهي تشفي مَن كان سقيماً وتصون مَن هو كامل العافية. فإنّ كلاًّ منا، نحن المتتلمذين “للكلمة” يعتبر خادم واحدة من المهن تلك التي عيّنها لنا الإنجيل. وذلك البيت الكبير، الذي هو الكنيسة يجمع بين جنبيه ليس أواني من كل صنف، من ذهب أو فضة أو خشب أو خزف فحسب، بل هو يضمّ كذلك شتى الفنون والمهن. فبيت الله، الذي هو كنيسة الله الحيّ يسجّل بين صفوفه صيّادين ومسافرين، مهندسين وبنّائين، حرثة ورعاة، جنوداً ومصارعين. وهذه الآية الوجيزة ستلائم جميع هؤلاء موضحة للكافة بأجلى بيان ما يحتم أن يكون عليه واحدهم من الدقة والغيرة عند القيام بعمله. هل أنت صياد أرسلك الرب الذي قال: “هاءنذا مرسل صيادين كثيرين فيقنعونهم عن كل جبل” (9) فترقّب بكل اعتناء مخافة أن لا تفلت طريدة واحدة، فيقنصوهم. حتى، اذا ما انتزعتها بكلام الحق من الرذائل المتحكمة بها، تقودها إلى ما فيه خيرها. أأنت مسافر نظير ذاك الذي كان يصلي: “ثبّت خطواتي” (10)، راقب ذاتك كي لا تتيه عن جادّة الطريق، أو تميل يمنةً أو يسرة، بل سر في الطريق السلطانية. أيها المهندس ضع أساس الإيمان الذي هو المسيح يسوع واجعله وطيد الأركان راسخاً. أيها البنّاء انظر إلى ما تبنيه كي لا يكون خشباً أو هشيماً أو تبناً بل “ذهباً أو فضة أو حجارة ثمينة” (11). أيها الراعي، لاحظ ذاتك كي لا تهمل فرضاً من فروضك الرعائية. وما هي تلك الفروض؟ انها هدي الضال، وتضميد الجريح، وشفاء المريض. ايها الحارث أعزق حول التينة المجدبة وقدّم لها كلّ ما يمكن أن يساعدها على الإنتاج والعطاء. أيها الجندي. “اشترك في مشقّات الإنجيل” (12)، وابْل بلاءً حسناً ضدّ أرواح الشرير، وأهواء الجسد، خذ سلاح الله الكامل ولا ترتبك بهموم الحياة لترضي الذي جنّدك. أيها المصارع، لاحظ ذاتك، كي لا تتعدى نواميس هذه الرياضة. فانه لا أحد ينال الاكليل ما لم يجاهد جهاداً شرعياً. تشبَّه ببولس الرسول الذي جاب الأقطار وجاهد وصارع. أما أنت فاحرص ولا تغضّ الطرف عن نفسك شأن المصارعين المحنّكين. صن بساعديك الأعضاء الرئيسية، التي هي هدف لسهام العدوّ. واجعل نظرك شاخصاً أبداً نحو خصمك. وفي عَدْوِك حدِّق إلى الأمام. وهكذا سرْ حتى تحوز قصب السبق. صارع في الحرب الأعداء غير المنظورين، وأما غرض هذه الكلمة الأوحد فهو أن لا تكون في حياتك مجندلاً على الحضيض أو نائماً، بل أن تكون ثابت القَدَم، نابذاً عنك الكرى، مكبّاً على درس ذاتك بالحكمة والسهر.
إن هذا اليوم قصير، فانه لن يسنح لي أن أُعدّد للقائمين بمهام إنجيل المسيح جميع واجباتهم، كما لن يسنح لي أيضاً أن أُبيّن قوة هذه الوصية، وكيف أنها توافق الجميع بلا استثناء. “لاحظ ذاتك”، كن فطناً ذا حنكة واستشر في أمورك. احرص على ما تملك، متوقعاً أي شيء قد يطرأ عليك، ولا تفقد باستهتارك ما أنت حاصل عليه ولا تعلّق آمالك بما لم يحصل حتى الآن -ولربما لن يبرز قط إلى حيّز الوجود- كأنه قد صار في قبضة يدك. أوَليس أمر بديهي أن يحلّ هذا الداء بالشباب، وهم الذين لخفّة عقولهم، يظنون أن ما يرجونه قد صار في حوزتهم. فانهم والحق يقال، عندما ينعمون براحة البال وسكونه يتخيّلون أوهاماً باطلة لا قوام لها، ويتنقلون بسرعة الفكر إلى هذه التخيلات، فيحلمون بغرور الحياة وبزيجة شريفة ونسل كريم، وبشيخوخة متأخرة، واجماع الكل على اجلالهم وتقديرهم. لكن إذ انهم لا يستطيعون التوقف عند هذه الآمال، يأخذهم الزهو، حالمين بالوظائف البشرية العالية، فيبنون القصور الجميلة الشاهقة ويفرشونها بأفخر الرياش وأجوده، ويحوطونها بالرياض الغنّاء، ويفضي بهم الغرور إلى أنهم يفصلونها عن فلك محيطهم الأرضي. ثم يجمعون هناك غلالهم في أهراء خيالية. ويضيفون لها مواشي وعدداً وفيراً من العبيد والاماء. ثم يضيفون إلى هذه كلها الوظائف المدنية، وقيادة الشعوب، والجيوش والحروب، والانتصارات، وحتى الملْك عينه. ويحلّقون فوق هذه الأشياء جميعاً ببطل أفكارهم الفارغة، حتى انه يتراءى لهم أنهم قد بدأوا ينعمون بما يرجونه كأنهم قد ظفروا به وأمسى تحت أقدامهم. ان هذا الداء، هو داء نفس مريضة بطّالة، تحلم بأمور كهذه بينما يكون الجسم مستيقظاً واعياً.
فهذه الآية تحطّ من عجرفة الروح، وتنزل من غلواء الأفكار الجامحة، وتكبح، كأنما بلجام، تقلّب الأفكار وعدم ثباتها، وتدلي بهذه الوصية السديدة قائلة: “تأمل في ذاتك” ولا تحلم بما هو غير موجود، لكن استعمل ما هو حاضر في سبيل منفعتك وخيرك. وأظنّ أن مشترع الناموس قد عمد إلى هذا التحريض ليستأصل منّا هذه العادة الذميمة. لأنه أسهل على المرء أن ينقّب. بفضول، عن شؤون غيره من أن يهتم بأمور نفسه. فخشية أن نقع بهذه الأحبولة قال لنا: كفّ عن التنقيب في زلاّت غيرك، ولا تعطِ سبيلاً لأفكارك حتى تبحث عن عيوبه بل بالأحرى “راقب ذاتك”، أعني أجِلْ بصيرتك بدرس ذاتك. فما أكثر الذين، حسب قول الرب (13)، ينظرون إلى القذى في عين أخيهم ولا يفطنون إلى الخشبة التي في عينهم. فلا تكفّ إذن عن درس ذاتك لترى إن كنت سالكاً بمقتضى الناموس. إنما لا تندفع إلى الأمور الخارجة، ولا تجدّ منقِّباً لتعثر على عيب في قريبك مثل الفريسيّ المتكبر، المغترّ بنفسه، الذي أقبل ليزكّي نفسه، و يمتهن العشّار بازدراء. لا تملّ مناقشة ذاتك الحساب، فلعلّك قد خطئت برغباتك، أو أن لسانك قد سابق فكرك. أو لعلّ شرّاً صدر عنك فان وجدت في حياتك آثاماً كثيرة (وستجد بلا ريب لأن كل إنسان يخطئ) قل كلمات العشار هذه: “يا الله اغفر لي أنا الخاطئ”. “لاحظ ذاتك”. فهذه الكلمة سوف تمثل أمامك، وتجديك نفعاً إن كنت متمتعاً برغد العيش، أو كانت كل حياتك تجري كجدول عذب بصفوٍ وهناء، فتكون لك كمرشد صالح يوقفك على حقيقة الأمور الدنيوية. وعندما تكون تحت صروف الحدثان تتردّد هذه الكلمة على قلبك في حينها حتى لا تذهب في سكرة المجد إلى الخيلاء والعجرفة، ولا تسقط من فرط الغم في الفشل والقنوط. هل أنت معتزّ بثروتك الواسعة؟ أم أنت متباهٍ بحسبك وطيب محتدك؟ أم أنت تفتخر بوطنك وبما أنت عليه من الأناقة والجمال إلى غير ذلك من الأمجاد؟ “تأمل ذاتك” فانك مائت، لأنك تراب، وإلى التراب تعود” (14) انظر إلى الذين سبقوك وتمتّعوا قبلك بهذه الإنعامات نفسها فأين هم الذين تبوّأوا المناصب المدنيّة؟ أين هم فحول الخطباء؟ أين هم الذين نظّموا الأعياد الوطنية؟ أين هم الأنام الأغنياء، أين هم ذوو الجياد المطهّمة والمُعدَّة لميادين السباق؟ أين هم القادة أرباب الحرب، وحكّام الولايات، أصحاب الجور والاستبداد؟ أليسوا جميعاً غباراً ورماداً!؟ أليس الكل غدا أوهاماً وأحلاماً؟ أوَليست آثار حياتهم قد انحصرت في قليل من العظام؟ طأطى الرأس واهبط في القبور، وحاول، ان استطعت، أن تميّز بين العبد والمولى، بين الغني والفقير.. فرِّق إن كان بمقدورك، بين الملك والأسير، بين الجبار والصعلوك، بين الجميل والقبيح. وعندئذٍ إذ تقف على حقيقة جوهرك فانك لن تشمخ بعد قط، بل انك تباشر الاهتمام بنفسك، إذا كنت قد فقهت.
هل أنت من نسب وضيع ساقط، فقير بين الفقراء لا وطن لك ولا ديار، أم أنت سقيم الجسم عليل، تفتقر إلى قوتك اليومي، وتهلع فَرَقاً أمام ذوي السلطان، وَجِلا بحضرتهم أجمعين لشظافة عيشك وبؤس حالك؟ “لأن العوز، كما يقول الكتاب، لا يقاوم الانتهار” (15). فلا تيأس من نفسك لأنك لا تملك في هذه الحياة شيئاً من الموجودات التي يطمح كل امرئ إلى امتلاكها. ولا تطرح عنك كل أمل حميد، لكن اسمُ بنفسك إلى ما قد أُعدّ لك سالفاً من الخيرات، وما هو مخزون لك للمستقبل.
فأولاً أنت إنسان، وأنت وحدك بين الحيوانات مجبول على صورة الله. أفلا يكفيك هذا، إن أحكمت النظر، انك قد جبلت، لحسن حظك، بيدي الله الذي أبدع كل هذه المبرؤات؟ وثانياً بما انك قد فطرت على صورة خالقك الذي صنعك أفليس بوسعك أن تضاهي الملائكة مجداً بسيرتك الصالحة القويمة؟ فلقد حباك الله نفساً عاقلة بها تدركه، وتبحث بفكرك عن طبيعة الكائنات، وتجني ألذّ ثمار الحكمة. ان الحيوانات الأرضية بأسرها، داجنة كانت أم متوحشة وكل ما يعيش في المياه، وكل ما يطير في الهواء، هي مستعبدة لك، وأنت سيّدها.
أفلم تستنبط الفنون، وتؤسس المدن، ألَم تبلغ إلى جميع ما هو ضروري لا بل إلى ما يُعدّ من سبيل البذخ والترف أيضاً؟ أفلم تشق في عباب البحار سبُلاً سهلة بفضل فطنتك وذكائك؟ أوَلا يجود عليك البرّ والبحر بما تفتقر إليه في حياتك؟ أليس لأجلك تُظهر السماء والهواء ومحافل الكواكب العلوية كل ما فيها من نظام وجمال؟ فلِمَ إذن تنكسر نفسك غمّاً، ألأنك لا تملك جواداً ذا حَكَمة فضية؟ أفليس لك الشمس التي تسكب النور عليك في عدوها السريع سحابة النهار أم لأنه ليس لك أوانٍ من ذهب ومصابيح من فضة؟ فلك البدر الذي ينيرك بأنواره الغزيرة. أم لأنك لا تمتطي المركبات المصفحة بالذهب؟ إنما لك قدمان، فهمَا مركبتك التي رافقتك من طيّ الحشا. فلماذا إذن تغبط من له الجيوب الملأى، ومع ذلك يفتقر إلى اقدام غيره حتى يبرح من مكان إلى مكان؟ أو لأنك لا ترقد على سرير عاجي؟ لكن لك الأرض التي هي أثمن من العاج، لك الراحة العذبة في حضنها، والوسن الخفيف الناعم الذي لا تعكّره الهموم والأحزان. أم لأنك لا تجلس تحت مظلة مغشاة بالذهب؟ فعندك السماء المتلألئة بسناء كواكبها الساطعة- هذا من الوجهة البشرية -ولكن ما يفوق هذا كثيراً هو نزول الإله بين البشر لأجلك وتوزيع الروح القدوس، وإبادة الموت واضمحلاله. هو الأمل بالقيامة والنشور، والوصايا الإلهية التي تؤدي بك إلى الكمال. لك السبيل الذي يقودك إلى الله بواسطة الوصايا وملكوت السماوات المهيّأ لك وأكاليل العدل المعدّة للذين لم يحجموا عن الفضيلة رغم ما كابدوا في سبيلها من المشاق والأتعاب.
لو كنت تلاحظ ذاتك جيداً لوجدت حواليك هذه اللآلىء لا بل كثيراً غيرها، ولكنت تمتعت بما هو بين يديك دون أن تغتمّ لما تفتقر إليه. وفي أي حالة وجدت، وكانت هذه الشريعة نصب عينيك، تمدّك بالغوث والمعونة. هكذا مثلاً أتملّكت أفكارك سورةُ الغضب، ودفعتك إلى التفوّه بألفاظ بذيئة، أو إلى اقتراف أعمال وحشية ضارية؟ فإن لاحظت ذاتك فلسوف تخمد الغضب كما يكبح جواد حرون، إذ تشعر بضربات الحجى كأنما بجلدات السياط، وتلجم لسانك وتفتّ في ساعديك، فلا ترفعه على من أثار سخطك. واذا ما الشهوات الرديئة هاجت فيك وهوَت بنفسك إلى الأشواق السافلة، فإن عكفت على ذاتك، وذكرت أن هذا الأمر الذي يسوّغ لك الآن مريئاً عذباً، سينقلب فيمَا بعد إلى مرارة العلقم، وان اللذة التي يستجديها الجسد الآن في الإدمان على المنكرات، ستلد آكلة سامة ترعى بدننا، وتذيقنا، على غابر الدهر، أمرّ العقاب في جهنم النار. وان لظى شهواتنا سيذكي اللهيب الأبدي. والتنعمات السالفة يعفى ذكرها حالاً، ويعقبها سكون داخلي رهيب يأخذ بمجامع النفس، كما أن الصمت يخيّم وجلبة الجواري المتشاجرات يكفّ عند حضور ربّة المنزل الجليلة.
“لاحظ إذن ذاتك” واعلم أن في نفسك قوّتين: قوة روحية واعية، وقوة شهوانية عمياء. فالأولى ينبغي لها أن تستلم زمام القيادة، وعلى الأهواء أن تنقاد لها صاغرة. فلا تسمح مطلقاً للقوى العقلية فيك أن تصبح عبدة للأهواء وخانعة تحت نيرها. ولا ترفض قط أن يثور ثائر الأهواء على العقل وان تغتصب هذه لذاتها حتى التسلّط على النفس.
ان التبصّر العميق في ذاتك ينهج لك سبيلاً كافياً للتبحّر به تعالى، لأنه إن لاحظت ذاتك تصبح بغنى عن البحث عن الخالق في نظام الطبيعة، بل تمعن النظر في ذاتك، كما في عالم صغير، إلى حكمة الخالق السامية. واعلم أن الله لا جسم له، مثل النفس المنتشرة فيك والتي لا جسم لها. وانه لا يحصره مكان ما، لأن نفسك أيضاً لا تقيم بمكان خاص بها دون غيره، لكن هي محصورة في مكان لأنها متّحدة بالجسد. آمن ان الله غير منظور بتأملك بنفسك، لأن النفس لا تقع تحت حاسة العين المجرّدة، إذ لا لون لها، ولا شكل، ولا مفرغة في قالب مادي، لكنها تعرف بما تقوم به من الأعمال وحسب. وبالمعنى عينه فلا تحاول أن تبصر الله بعينيك، لكن شدّد روح الإيمان في ذهنك، وليكن عندك منه تعالى إدراكاً روحانياً. أكبر ذلك الفنان الذي ضمّ قوى نفسك إلى جسدك، بحيث تصل إلى أقصى أطرافه، وتجمع كل الأعضاء، مهمَا بعدت، في شركة وائتلاف واحد. تفحّص ماهية القدرة التي يستمدّها الجسد من النفس، وما هو الانفعال والتأثير الذي تتأثر به النفس من الجسد، وكيف ان النفس بدورها تتعذّب من الأمراض التي تأتيها من الجسد، وأي خلايا عند النفس لاقتباس المعارف. وتفحّص أيضاً كيف ان الاستزادة من الاطّلاع والتوسّع في العلم لا تمحو المعارف السابقة، لكن الذكريات تلبث واضحة جليّة دون أن يعتريها أدنى تشوّش أو خلَل، بل تبقى منقوشة في الجزء الأشرف من النفس، كأنها محفورة على اسطوانة من نحاس، وكيف انها عندما تلين وتنقاد لأهواء الجسد، تفقد جمالها الخاص بها، وكيف انه إذا تطهّرت من أدران الإثم تأخذ في السعي بجدّ مشاكلة خالقها.
لاحظ، إن حَسُنَ في عينيك، تركيب الجسد بعد أن تأملت في خواص النفس. وأكبر عبقرية ذلك المهندس الالهي الذي أحلّ النفس الناطقة في محل يناسب شرفها الرفيع. جبل الإنسان واقفاً مستقيماً دون غيره من سائر الحيوانات، حتى يعرف من هيكله هذا أن أصول حياته متفرعة من فوق. لأن ذوات الأربع جميعها تطرق بنظرها إلى الأرض، وإلى جوفها، وكأني بنظر الإنسان المصوّب أبداً إلى السماء، يرشده إلى أن لا يرفّه جوفه، ولا الشهوات التي من تحته، لكن عليه أن يصبو، بكل أشواقه ومهج فؤاده، للارتقاء نحو العلاء. ثم بعد أن وضع له رأسه في أعلى هامته، حصر له فيه أكثر حواسّه شرفاً: فهناك البصر، والسمع، والذوق والشمّ وكلّها مجاور بعضها بعضاً. وهي وان كانت محصورة كلها في مكان ضيق، فلا واحدة منها تعيق في شيء عمل الأخرى. فالعينان تحتلّ المرتبة الأعلى في المراقبة بمعنى أنه بفضل هذه المنزلة لا يعترضها عن إتمام عملها عضو من أعضاء الجسد الأخرى. ولكن بما انها نازلة بين الجفون كأنها في معقل، فهي مضطرة لأن تنظر إلى الأمام بفضل تلك الأهداب البارزة التي تعلوها. أما السمع فليس مفتوحاً بخط مستوٍ لكنه يلتقط الأصوات من الهواء في ممرّ لولبي، كثير التجاويف. وهذا التدبير نتيجة حكمة سامية، حتى يتمكن الصوت من أن يمرّ بلا عائق، أو بالحريّ أن يرنّ إذ يتصدّع بتلك التجاويف. وهكذا فلا شيء مما يحدث في الخارج يعود قادراً أن يقف عقبة في سبيل السماع. تأمل طبيعة اللسان، كيف أنه لدن مرن، ويلبّي بدوراته المختلفة كل حاجات الكلام. وأما الأسنان، وإن كانت تحسب من أعضاء الآلة الصوتية، إلا أنها كسور قوي يذود عن اللسان. وهي تستخدم أيضاً للقوت. فبعض يقطع الأكل وبعض يطحنه. وهكذا فإن أنت اعتمدت هذا الأسلوب لتتفحّص سائر الأعضاء كاستيعاب الهواء بالرئتين والمحافظة على حرارة القلب، والجهاز الهضمي، ومجاري الدماء، فمن كل هذه الأشياء تتبيّن حكمة الخالق التي لا ندّ لها ولا نظير. بنوع انك تقول مع النبي: “ان عِلمك أدهشني من ذاتي” (16).
“تأمّل إذن ذاتك” حتى تبلغ إلى معاينته تعالى، الذي له المجد والعزّة إلى دهر الدهور. آمين.