ها أنا أخرّ ثانية عند قدَمي سيدي، متوسلاً، متضرّعاً، ساجداً وصارخاً إليه بخوف.
أيها السيد، انتبه إلى نُواحي، واقبل كلمات تضرّعي التي أُقدمها إليك أنا الخاطئ المخزي.
بحسب رحمتك اسكب عليّ، أنا البائس، على الأقل نقطةً صغيرة واحدة من النعمة لتجعلني أفهم وأتحوّل، لأقوم على الأقل بجهد صغير لأصحِّح ذاتي.
لأنه إن كانت نعمتك لا تُنير نفسي، فلن أستطيع رؤية الإهمال والتواني اللذين أحدثَتْهما الأهواء فيّ ببلادتي وتهوُّري.
وحسرتاه، لقد استحوذتْ عليّ الخطيئةُ ووجدت فيَّ مرعىً. مع كل يوم ينقضي فإنها تبخسني حقي وتطمرني أكثر فأكثر في أعماقها. وأنا البائس لا أكفّ عن إغضاب الله ولا أخاف النار التي لا تُطفأ ولا أرتعد من العذابات الأبدية.
صارت الخطيئة عادةً وقادتني إلى هلاكٍ تام. ورغم أني أميّز ضلالي ولا أكفّ عن تقديم الاعترافات، فما أزال في الخطيئة حتى الآن. إني أنظر ولا أرى، لأني أُخطأ حتى في التوبة، لأني لا أحاول تفحُّص أعمالي[1].
كعبدٍ للخطية أقوم بالأعمال الخسيسة حتى عندما لا أريد. كمحارب في إمرتها أطيعها، ورغم أن لديّ فرصة للهرب فإني أكرّر هذه العادة التي تتحكّم فيّ. إني أطيع الأهواء وأسدّد دفعات الجسد.
أعرف أن الفساد يتقوّى فيّ، وأنا نفسي أتعاون معه،
مسحوراً بقوة سرية ما.
أودّ الهرب، لكني مثل كلب في سلسلة أعود دائماً إلى الرقعة نفسها.
يتفق أحياناً أن أكره الخطيئة وأشعر بالاشمئزاز من الإثم، لكني أبقى رغم ذلك مستَعبداً للهوى. إنه يمتلكني أنا المنكود الحظ وبلذة خاطئة يقودني إلى الخطيئة. لقد اشترى الهوى إرادتي الحرة لنفسه، وتقيّأ الخطيئة عليّ. الأهواء تغلي فيّ خلافاً (لرغبة) عقلي؛ لقد التحمَتْ بجسدي ولن تسمح بالانفصال عنه.
أجتهدُ أن أعيد توجيه إرادتي، لكن حالتي السابقة لن تسمح لي بإحراز أي نجاح في هذه المحاولة. أنا، التعيس، أحاول أن أحرّر نفسي من ديونها، لكن المرابي الشرير يقودني للحال إلى دينٍ أفحش. إنه يقرضني ديوناً بسخاء، ولا يذكر حتى الوفاء أبداً.
إنه لا يريد أن يستردَّ أي شيء، لأنه يرغب بعبوديتي وحدها. إنه يُقرض ومن ثمَّ لا يجدّ في إثر ديوني، حتى أصيرَ غنياً بالأهواء. أُريد قضاء دَيني القديم، لكنه يضيف دَيناً جديداً.
إذا أكرهت نفسي نوعاً ما على الصراع ضد الأهواء، فإنه يضيف أهواء جديدة ليتغلّب عليّ. وعندما يرى أن مديونيتي الدائمة تجبرني على الخطيئة، يقدمني إلى شهوات جديدة؛ وليمنعني من الاعتراف بها يغمرني بالسهو عن أهوائي.
أصادفُ أهواءً جديدة وإذ أنا مشغول بها أنسى السابقة. أصادقُ الأهواء التي تظهر ثانية فأصير مَديناً مرة أخرى. أركضُ إليها ركضي إلى أصدقاء، فيتصرّف من جديد مرابوني نحوي مرة أخرى مثل أسيادٍ.
وأنا أجعل ذاتي عبدهم الوفي، أنا الذي حاولت منذ فترة يسيرة أن أنال الحرية. تارة أسارع إلى تمزيق قيودهم، وتارة أخرى أضع قيوداً جديدة. أسارع إلى تحرير نفسي من الالتزام بالعراك في صفهم، إنما لأني أخذت عطايا كثيرة منهم أجد نفسي مقيَّداً بهم لا مختاراً.
آهٍ، كم فاحش هو سلطان الأهواء الخاطئة عليّ! آهٍ، كم عظيمة هي سيادة الثعبان الشرير الماكر! متصرِّفاً بحسب الطبيعة يذهب هو أيضاً إلى السوق ويقدّم عربوناً لكي يـبيع الذهن للخطيئة. إنه يقنعني أن أُرضي الجسدَ بذريعة استعماله لخدمة النفس.
أنا مقهورٌ تماماً بالشهوانية، وأنا أنغمس مباشرة في نوم غير مشروط؛ وهكذا أنا محرومٌ تماماً من وظيفة نفسي.
عندما أصلّي، يثير فيّ فكرَ متعة تافهة ما، ومعها يقيّد ذهني كما بسلسلة نحاسية. ذهني لا يستطيع حلّ القيد، ولا محاولة الفرار.
هكذا تحفظ الخطيئةُ ذهني تحت الحراسة وتغلق عليّ أبواب المعرفة. العدو يراقب الذهنَ باستمرار، حتى لا يأتي ويتفق مع الله وحتى لا يمنعه من بيع الجسد.
لهذه الغاية يوظّف كثرة من الأفكار المشوّشة، مؤكداً لي أني لن أُساءَل عن تفاهات كهذه عند الدينونة، وأنه من المستحيل لأي واحد أن يعرف هذه الأفكار، وأن كل أشباه هذه الأشياء ستُنسى. لكني أتخيّل في عين ذهني كيف سيُكشَف ضلالي وأعرف أنني مهدَّد بالعقاب.
هكذا تحفظني الخطيئة مقيَّداً، هكذا تربطني؛ هكذا تشتريني وتبيعني؛ هكذا تقودني نحو الضلال؛ هكذا تتملَّقني وتُخضعني لذاتها لأن الإنسان ـ كما يقول الرسول ـ مُبيعٌ تحت الخطية. لأن الخطيئة التي في جسدي تحكم على ذهني، وبسبب خطئي أنا تستعمل هي جسدي لتُـثقل على نفسي.
إنْ تعهّد أحدهم أن يصوم أو يسهر أو يتحمّل الجروح، تستعمل الخطيئةُ الجسدَ كما لو كان مِلْكها لتُـثقل على النفس بالسلاسل، ومثل غنم مُعدٍّ للذبح تربطه وتستعمل الجسدَ أيضاً لتقطع أيديها وأقدامها.
إني لا أستطيع الفرار، ولا أستطيع مساعدة نفسي أيضاً.
وحسرتاه! أنا جثةٌ وإن كنتُ حيّاً.
أنظرُ ولا أُبصرُ، لقد تحوَّلتُ من إنسانٍ إلى كلبٍ،
ورغم أن لديّ عقلاً فإني أُعامَل مثل حيوانٍ.
ارحمي ذاتكِ يا نفس، وسارعي في النهاية إلى الالتحام في المعركة ضد الخطيئة قبل أن ترحلي من الجسد، حتى لا نبقى خارج الأبواب مثل العذارى الحمقى؛ لأن الميت
لا يمكنه أن يرى الحياة أو يتأمّل البرَّ هناك حيث لا توجد معركة نحو الحياة أو الموت، حيث لا يوجد جسد للعدو ليلعنه عندما يكون مهزوماً به تماماً.