في بعض الأيام نَهضت في الدلج ؛ وذهبت أنا واثنان من الأخوان إلى مدينة الرها المباركة ؛ فرفعت عيني إلى فوق السماء فعاينت المدينة كامرأة صافٍ صقالها ؛ تتلألأ على الأرض كالنجوم لامعة بمجد.فإذ تعجبت كثيراً قلت: إن كانت هذه البرايا تلمع بمجد هكذا كم أولى بالقديسين والصديقين الذين صنعوا مشيئة الإله القدوس ؛ في تلك الساعة إذا جاء الرب أن يشرقوا أكثر بنورٍ لا ينعت ؛ بنور مجد المخلص.وللحين تذكرت ورود المسيح المرهوب ؛ فاضطربت عظامي، وانقطعت قوة نفسي مع جسمي ؛ وبكيت بوجع قلب ؛ وقلت بزفرات: كيف أُوجد أنا الخاطئ في تلك الساعة الرهيبة ؟
كيف أمثل بحضرة مجلس القاضي المرهوب ؟ كيف أُوجد أنا المتنزه مع الكاملين ؟
أم كيف أقف أنا الجدي مع الخراف عن ميامن المسيح ؟ أم كيف أُوجد أنا الغير مثمر مع القديسين العاملين هنا ثمر العدل ؟ أو إذا عرف القديسون بعضهم البعض في الحجلة السمائية ماذا أصنع أنا ؟
ترى من يعرفني ! هل الصديقون في الخدر ؟ أو المنافقون في النار ؟ فترى الشهداء عذاباتِهم والنساك فضائلهم. فماذا أرى أنا سوى رخاوة نيتي، أيتها النفس المتنزهة، يا نفسي الخاطئة، أيتها النفس التي لا حياء لها، أيتها النفس الماقتة حياتِها إلى متى تجذبك الهموم على الأرض ؟
إلى متى يجرك سوء عادة الأفكار الخبيثة ؟ أما قد علمت أن الأفكار الخبيثة في كل ساعة تصير كسحابة مظلمة قدامك ؛ وتحجزك عن أن تقفي لدى اللـه.أنتِ تتوقعين بوفور ونيتك أن الختن السمائي سيبطئ في وروده، لا يبطئ يا شقية بل كبرق خلب يكون وروده من السماء، احرصي أن توجدي مستعدة في تلك الساعة المخيفة ؛ لكي لا تبكين هناك إلى أبد الدهور.لا تصغي بالكلية إلى هفوات آخرين، بل انتحبي على زلاتك، لا تبصري إلى القذاء في عين الأخ والقريب، بل تأملي الجذع في ناظرك تأملاً متواتراً، إن أمكنك أن تنتزعي أولاً الجذع من عينك فأخرجي قذاء الأخ والقريب، وإن لم يمكنك فنوحي على ظلمتك المستصعبة.
كيف تظنين أنك تمنحين القريب نوراً، صيري يا نفسي طبيبة لذاتك كل ساعة ؛ ثم بعد ذلك أشفي أخاكِ السقيم، فليست لك حجة عن توانيكِ لأن الإله الرحوم قد أعطاكِ كل المواهب، تمييزاً وفهماً ومعرفة روحانية، فاعرفي منذ الآن ما يوافقك.فبكى عند ذلك الأخوان اللذين معي ؛ وقالا: لم تبكِ أيها الأب بكثرة نحيب ؟ فقلت لهما: يا ولدي المحبوبين أنوح على ذاتي من أجل ونيتي، لأن الإله الصالح قد أعطانا استنارة العلم وأنا أخالفه يوماً فيوماً.لأنني إن أكملت مشيئة الرب فسأكون في تلك الساعة مغبوطاً ؛ ولست وحدي بل والذين يعملون مسراته، فمن أجل هذا يا إخوتي لا معذرة لنا هناك البتة لأننا نخطئ بمعرفة، فلنتأمل تدبير اللـه في كافة المواهب التي أعطانا إياها.فنعمته تتعهد قلوبنا دائماً ؛ فحين تجد راحة لها تدخل تسكن في النفس سرمداً ؛ وإن لم تجد القلب نقياً نظيفاً تبتعد عنه، ثم تضطرها رأفاتِها أن تتعهد الخاطئين. فإذا كنا متغيري العزم ؛ وذهننا يستحيل متقلباً، أليس بالطبع نوجد دائماً متنزهين ومسترخين حسودين خبثاء مفتكرين بعضنا ببعض أفكاراً رديئة، فاسقين نجسين متذكرين أفعالاً رديئة خبيثة، دائماً مطروحين في حمأة منتنة من الأفكار.فإذا جاءت النعمة تفتقدنا تجد في قلوبنا نتانة الأفكار الخبيثة، فتتنحى وتبتعد إذ لم تجد مدخلاً تدخل وتسكن فينا كما تريد، سوى أنَها تنخر القلب بحلاوة منيرة ليحس بأنَها تعهدته ولم تجد لها مدخلاً.
لكي إذا تحلى الإنسان بالأنوار سار يطلبها ؛ ومع هذا فهذه النعمة لا يمكنها أن تبتعد منا بالجملة لأن تحننها يلزمها ويضطرها أن ترحم الكل.أرايت تدبير اللـه السابق، أرايت تحنن المسيح الإله القدوس كيف يحبنا دائماً مريداً أن يخلصنا. فمغبوط الإنسان الذي يحرص كل وقت أن يعد قلبه نقياً نظيفاً للنعمة ؛ لكي ما إذا جاءت تجد فيه طيب نسيم الفضائل وطهارة النفس فتسكن فيه إلى أبد الدهور.فماذا نعطي الإله المتحنن عن كافة خيراته ومواهبه، إذ نزل من السماء من لدن الآب ؛ وتجسد من أجلنا في مستودع البتول، ومن أجلنا لطم مثل عبد، فماذا نقضي عن اللطمة وحدها ؟ إن عشنا على الأرض ألف سنة لا نستطيع أن نفي اللـه كما يجب له مجازاة نعمته.إني أخشى من هذا يا ولديّ المحبوبين ؛ لأنني أعرف ونيتي وأخاف من أن يكون كافة الناظرين إليَّ ؛ ومطوبي ورعي الكاذب ؛ يبصقون عليَّ هناك إذا أبصروني متحرقاً بالنار.أرثِ يارب، أيها المتحنن، المسيح المخلص ؛ الابن الوحيد ؛ لعبدك العاطل لئلا أوجد هناك قدام المنبر واقفاً بخوف وخزي عظيم ؛ وعاراً للمشاهدين أي الملائكة والناس.أدبني هنا يا مخلصي كما يليق بالأب المتحنن المحب ولده، واغفر لي هناك بما أنك أنت الإله السماوي الغير خاطئ وحدك، فإنك إن لم تيقظ الشقي وتعطيه استنارة قلب ليتوب بلا خجل عن خطاياه، فماذا يصنع هناك إذ لا عذر له ؟
فإذ لم أكن موجوداً على الأرض فجبلتني يا سيدي برأفاتك الجزيلة في جوف أمي الخاطئة، وولدت أنا الغير مستحق برحمتك ؛ وأُهلت أن أصير أناة لنعمتك ؛ ورباباً جليلة تترنم على الدوام كلمات الخلاص لكافة السامعين.فأخذت هذه الصلاة أنا المسترخي الخاطئ ؛ وأنكرت بتوانيَّ وإرتخائي ؛ لكن نعمتك لا تزال تترنم بفم المتواني ترنيمات بارة ؛ وتنير المعقول المظلم؛ وتحرك فيَّ نغمات ترنيمك أيها المسيح.فمن أجل هذا أجثو ساجداً لنعمتك أيها الابن الوحيد مخلص نفوسنا ؛ طالباً كما صارت عنا نعمتك فيَّ أنا الغير مستحق كل ساعة استنارة وصيانة ونصراً وفرحاً ؛ أن تسترني هناك تحت أجنحتها من تلك الطائلة المخيفة ؛ وتوقفني في الجهة اليمنى في ملكك ؛ مترأفاً عليَّ ؛ مخلصاً إياي برحمتك ؛ لأسبح وأمجد طول أناتك ؛ لأنك لم تعرض عن عبرات عبدك العاطل الخاطئ.لك السبح إلى أباد الدهورآمين
مقالات مار إفرآم السريانى