عرس قرية قانا الجليل 1
قانا قريةٌ صغيرة تقعُ في منطقة الجليل على بعد عشرين كيلومتراً شماليَّ الناصرة. أُقيم فيها عرس دُعيت إليه مريم أُمُّ يسوع، ودُعيَ إليه يسوع أيضاً مع تلاميذه الخمسة الأوَّلين، وهم بطرس وأخوه أندراوس ويوحنَّا الحبيب وفيلبُّس وبرتلماوس. وكان برتلماوس من قرية قانا نفسها.
وفي أثناء الاحتفال بالعرس نفِدت الخمر. ولاحظت مريم أمّ يسوع ذلك فأعلمت بالأمر ابنها، وفي نيّتها أن يُنقِذَ أهلَ العرس من الحَرَج والخجل بمعجزةٍ يصنعها لهم. وبعد حديثٍ قصير بينها وبينه استجابَ طلبها وصنع المعجزة المطلوبة.
عندما نتأمّل في هذه المعجزة نلاحظ أنَّ يسوع قد قَبِلَ الدعوة إلى العرس واشترك في الاحتفال به ليصيب أربعة أهداف معاً. وإليكم هذه الأهداف.
1- تقديس الزواج المسيحي
اشترك يسوع في أفراح عرس قانا الجليل ليقدِّس الزواج المسيحي بحضوره، ويرفعه من درجة عَقْدٍ طبيعي بين الرجل والمرأة إلى مقام سرٍّ إلهيّ يكون مجلبةً للنِعَمِ الكثيرة التي يحتاج إليها المتزوِّجون طَوال أيام حياتهم، فيستطيعون بفضلها أن يعيشوا عيشةً مقدّسة، ويتحمّلوا بصبرٍ ومودَّة متبادَلة أعباء الحياة المشتركة، ويربّوا أولادهم تربية صالحة.
وقد فهمت الكنيسة أنَّ يسوع يريد أن يكون الزواج المسيحي مقدّساً فأنشأت مجموعة صلواتٍ وأدعية تسأل بها الله أن يباركَ الزَوْجَين ويغمُرَهما بنعمه الغزيرة ويثبِّت حبّهما المتبادَل مدى حياتهما.

2- التقيّد بالأخلاق الصالحة
وكان هدفه الثاني من اشتراكه في العرس أن يؤكِّدَ لأهل العرس ولجميع المسيحيّين من بعدهم  أنَّ الفرح محبّبٌ إليه، ولكن يجب عليهم أن يتقيّدوا بقواعد الأخلاق الصالحة والآداب السليمة في ملابسهم وتصرّفاتهم ومظاهر أفراحهم، وأن يمارسوا فضيلة الاعتدال في المآكل والمشروبات، ويتمتَّعوا بأفراح العرس في جوٍّ بريء، فينبُذون عنهم الاستسلام إلى الرقص المَعيب والأغاني القبيحة والسُكْر والمبالغات الأثيمة.
والكنيسة تطلب من المسيحيّين باسم يسوع أن تكون أفراح أعراسهم مقرونةً بمظاهر الاحتشام والاعتدال، كما كان عرس قانا الجليل الذي اشترك فيه يسوع.
 3- الثقة بمريم أُمّ يسوع
أمَّا الهدف الثالث الذي توخّى يسوع إصابته فهو حمل المسيحيّين على الثقةِ بمريم أُمِّهِ العذراء وطَلَبِ شفاعتها. وهذا الهدف واضحٌ جداً في نصّ الإنجيل.
لمّا طلبت مريم أُمّ يسوع من ابنها أن يصنع معجزةً يزيل بها عن أهل العرس الحَرَج والخجل لم يستجب طلبها على الفور، وذلك لسببين ذكرهما بوضوح:
    الأول هو أنّه لم يشأ أن يتدخّل  لا هو ولا أُمّه  في شؤون أهل العرس. لقد كان يسوع وأمّه من جماعة المدعوّين، وكانت العادة السائدة آنذاك  ولا تزال قائمة إلى اليوم  أنَّ المدعوين يتركون لأهل العرس حرّية القرار والعمل والتصرّف. وقد عبّر يسوع عن هذه العادة بهذا القول المختصر " ما لي ولكِ أيّتها المرأة " أيْ إنَّ ترتيب الاحتفال بالعرس هو من شأن أهل العرس لا من شأننا. فليصنعوا ما يريدون، ونحن لا نتدخّل في تصرّفاتهم.
    أمّا كلمة " أيّتها المرأة " فهي تعني على شفَتَيْ يسوع " أيّتها السيدة " وليس فيها أيّة إهانة أو تحقير لأمّه. والبرهان على ذلك أنّه قالها لها وهو معلّق على الصليب قبل أن يموت بفترةٍ وجيزة : " أيّتها المرأة، هذا ابنُكِ ". (يوحنَّا 19/26)  ولا يُعقل أن يوجّه إلى أمّه إهانةً وهو يُنازع على الصليب.
والسبب الثاني الذي حمله على عدم استجابة طلبها فوراً هو أنَّ ساعة صُنْع معجزاته لم تأتِ بعد. قال لها : " لم تأتِ ساعتي بعد ". (يوحنَّا 2/4 )  فلا بدّ من انتظار مجيء الساعة التي حدّدها الله الآب.
إنّنا عندما نقرأ في نصّ الإنجيل قول يسوع " لم تأتِ ساعتي بعد " نقول في ذواتنا : لقد تسرّعت مريم أمّه عندما عرضت عليه طلبها. فهو لن يستجيب سؤلها لأنه ينتظر الساعة المحدّدة له منذ الأزل.
ولكنّ الدَهَش الأكبر يستولي علينا عندما نقرأ في نصّ الإنجيل نفسه ما قالته مريم للخَدَم : " افعلوا ما يأمرُكم به ". تُرى ما حدَثَ لتقول هذا القول ؟ لقد قرأت في عينَيْه ما تقرأه كلّ أُمٍّ  في عينَيْ ابنها عندما تكون على يقين أنّه يحبّها. قرأت في عينَيْه أنّه طلب إلى أبيه السماوي أن يعجّل مجيء ساعة صُنْع معجزاته إكراماً لها، وأَلاّ يُخيِّب أملها ولا يردّ سؤلها. وهذا ما جرى فعلاً.
قال يسوع للخَدَم : " املأوا الأجاجين ماءً. وناولوا وكيل المائدة ". وحوّل يسوع ماء ستة أجاجين إلى خمر، ولم يردَّ شفاعتها في صالح أهل العرس.
إنّ هذه المعجزة قد حملت أبناء الكنيسة، منذ القرون الأولى، في الشرق والغرب، على أن يتضرّعوا إلى مريم العذراء ويسألوا شفاعتها التي لا تُخزى. لقد فهموا أن شفاعتها لا تتعارض مع شفاعة يسوع ولا تنوب منابها.
فإنه يتبنَّى شفاعة أُمّه العذراء ويحملُها إلى الله الآب، ويجعلُها مع شفاعته شفاعةً واحدةً ووساطةً واحدةً، فيبقى هو الشفيع الأصيل والوسيط الأوحد بين الله والناس، كما ذكر بولس الرسول ذلك في رسالته الأولى إلى طيموتاوس : " إنَّ اللهَ واحدٌ، والوسيطَ بينَ اللهِ والناسِ واحدٌ، ألا وهو المسيحُ يسوعُ الإنسان ". ( 1 طيموتاوس 2/5)
4- الإيمان بقدرة يسوع الإلهيَّة
والهدف الرابع هو تقوية إيمان تلاميذه الجُدُد برسالته السماويّة. لقد تبعَ يسوعَ خمسةُ رجال وأرادوا أن يكونوا لـه تلاميذ. وكان يسوع يعرف أنَّهم كانوا بحاجةٍ إلى برهان يبيّن لهم أنّهم لم يُخطئوا في اتّباعه والبقاء معه.
فاغتنمَ هذه الفرصة المؤآتية وقدَّم لهم البرهان الذي يُزيل عنهم كلَّ تردّد، ويؤكّد لهم أنّهم كانوا على صواب عندما لبّوا دعوته وانضمّوا إليه. وكان البرهان الذي قدّمه لهم أنه صنع معجزةً لا يصنعها إلاّ الله وحدَه. واطّلع الرجال الخمسة مع أهل العرس على هذه المعجزة فمجّدوا قدرته الفائقة وآمنوا به وتبعوه نهائيّاً.